بعد ألمجزرة ألّتي نفذتها قوات ألمرتزقة ألتابعة للبريطانيين المسماة بقوات ألليفي في ألرابع مِن شهر أيّار مِن عام 1924 قام ألعمّال في شركة نفط ألعراق في كركوك بإضراب للمطالبة بحقوقهم ألمهضومة في 12 تمّوز مِن عام 1946. يذكر ألباحث وألكاتب ألتركماني أرشد ألهرمزي في مؤلّفِه صفحات مِنْ ألتاريخ ألتركماني حول هذه ألمجزرة ما يلي:
” لقد تحددت مطالب عمال شركة نفط العراق أثناء إضرابهم العمالي في المطالب التالية:
1- المطالبة بأن تنشيء شركة نفط العراق مساكن صحية للعمّال أو أن تمنحهم بدلات للسكن المريح.
2- المطالبة بالتأمين الاجتماعي ضد البطالة والعجز والشيخوخة.
3- تحديد الأجر الأدنى للعمال بمبلغ 250 فلسا عراقيا لليوم مع مخصصات تبلغ 170 فلسا لغلاء المعيشة، بحيث يكون مجموع الأجر اليومي 420 فلسا عراقيا.
4- المطالبة بتوفير المواصلات إلى مقر العمل ومنه.
5- المطالبة بمعاملة العمّال أسوة بعمّال الشركة في حيفا من حيث منحهم بدلات مخاطر الحرب وبواقع أجر ما يماثل 72 يوما في العام.
6- توقف الشركة عن الفصل التعسفي للعمّال ومعارضتها للعمل النقابي.
وقد بلغ مجموع عدد العمال المضربين خمسة آلاف شخص مما يدل على عدم صواب الحجة التي تناقلتها السفارة البريطانية والحكومة العراقية آنذاك من تأثير خارجي على عمال كركوك. بل إنَّ الاعتصام الّذي حدث يوم الثاني عشر من تموز(يوليو) لم يكن إلاّ للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين من العمّال الّذين زُجَّ بالكثير منهم في السجون اثر التقدم بمطالبهم المشروعة. وفي برقية سرية برقم 6350 بتاريخ 16 تموز(يوليو)1946 من السير ستونهيوير بيرد، السفير البريطاني في بغداد وهو اليوم الذي أنهى فيه العمّال إضرابهم بعد الاستجابة لبعض من مطالبهم إلى الحكومة البريطانية قدَّم السفير تقريرا موجزا يفيد بأن مظاهرات عمّالية قد جرت في يوم الثاني عشر من الشهر المذكور خلافا لأوامر متصرف كركوك الخاصة بالامتناع عن التظاهر وأنَّ تبادلا لإطلاق النار قد جرى بين المتظاهرين وقوّات الشرطة نجم عنه وفاة خمسة عمال وإصابة أربعة عشر عاملا بجروح مختلفة بالإضافة إلى إصابة ستّة من أفراد الشرطة المحلية.”…أنتهى.
إنَّ ألمُستعمر ألبريطاني لَمْ يحتل ألعراق إلّا لمصِّ ثروات هذا ألبلد ألعريق بحضاراته، فألذهب ألأسود أسال لعاب هؤلاء ألمصّاصين لدماء ألشعوب وأستكثروا على كادحي ألبلد مِن ألعمّال ألمطالبة بأبسط حقوقهم، وإنَّ تنفيذهم لهذه ألمجزرة بحق ألعمّال ألكادحين وألّتي سُميّت بمجزرة كاورباغي نسبة إلى منطقة كاورباغي في كركوك لدليل على عنجيتهم وإستهتارهم بأبسط حقوق ألإنسان.
أزدادت معاناة عائلتي خلال فترة سجن والدي وبدأت رحلتهم ألطويلة مع ألفقر، وقد أتّفق محمّد فاتح وهو في ألسجن مع صديق له على أنْ يُدير هذا ألصديق مكتبته لقاء جزء مِن ألأرباح، وكان هذا ألصديق يُسلِّم قسم مِن واردات ألمكتبة إلى والدتي لتتمكّن مِن إعالة أطفالها ألثلاثة وهم شقيقي ألأكبر أورخان وشقيقتاي آيتان وآيسل ألّتي كانت أثناء ألإعتقال طفلة رضيعة.
بعد أطلاق سراح والدي وبألرغم مِن ألظروف ألقاسية ألّتي مرّت بها ألعائلة أستمرَّ شقيقي أورخان وبقية أشقائي وشقيقاتي بألدراسة، فبعد أنْ أكمل أورخان ألمرحلة ألأعدادية بعد ولادتي بشهور، قرر والدي إرساله إلى تركيا لدراسة ألطب في جامعة أسطنبول، أمّا شقيقتي ألكبرى فكان حظّها عاثرا في ألحياة، فقد أحترق جسمها ووجهها في حادث إنفجار ألطبّاخ ألنفطي ألّذي يعتمد على ضغط ألهواء في إيقاده*، وأضطرّها هذا ألحادث ألأليم على ترك ألدراسة، وتفرّغت بعد وفاة والدتي ألّتي أُصيبت بمرض ألسرطان للقيام بألأعباء ألمنزلية وأنجاز ألمستلزمات ألمنزلية مِن طبخ وكنس وتنظيف وقامت بإشْغال ألفراغ ألّذي تركه وفاة والدتي وكانت كألأُم ألحنون لأشقّائها وشقيقتها ألصغرى بألرغم مِنْ أنَّ عمرها لَمْ يتجاوز حينذاك أثنا عشر عاما.
عندما توفيّت والدتي كنت طفلا في ألرابعة مِن ألعُمر ولا أذكر ملامحها جيدا ولَمْ يبقَ لي مِن ذكريات تلك ألأيام إلّا طيفها وخيالات قليلة لفّها ضباب ألنسيان وتراكم ألأحداث.
كانت فرحة والدي لاتقاس عندما أستلم رسالة أورخان يُبشّره فيها بحصوله على ألشهادة ألجامعية، وأحسَّ في تلك أللحظة أنَّ معاناته وتضحياته لَمْ تذهب سدى، فها هو أبنه ألبكر قد أصبح طبيبا وسيرجع إلى مدينته مُسلّحا بألعلم وألثقافة وسيخدم أبناء بلدته بمهنته. لقد رفع تخرّج أورخان عبئا ثقيلا عن كاهل محمّد فاتح وأعانه على أتّخاذ قرار آخر فأرسل بنته ألصغرى بعد إكمالها ألمرحلة ألأعدادية لدراسة ألصيدلة في نفس ألجامعة.
في صبيحة تمّوز مِن عام 1958 أستمعَتْ ألعائلة إلى صوت ألمذياع وهو يذيع نشيد ألله أكبر وتلا بعد ذلك ألمذيع ألبيان رقم واحد مبشّرا بقيام ألثورة على ألحكم ألملكي، فأستبشروا كما أستبشر ألعراقيون خيرا بهذا ألحدث ألجليل، كيف لا، وقد ولّى عهد ألأستعمار وتحرر ألعراقيون مِن نير ألأستعباد.
ولكنّ ألفرحة لَمْ تستمر طويلا، فبعد ألخلافات ألّتي دبّت بين ألضبّاط ألأحرار أقصى ألزعيم عبدألكريم قاسم قسما منهم مِن ألسلطة كعبدألسلام عارف ومؤيديه ألّذين كانوا يطالبون بالوحدة مع ألجمهورية ألعربية ألمتحدّة، وهو الاسم الرسمي لما سُمّي بالوحدة المصرية – السورية (1958-1961) والّتي كانت بداية لتوحيد الدول العربية والّتي كانت إحدى أحلام الرئيس جمال عبد الناصر.
في تلك ألفترة كان ألعالَم مُنقسِما إلى قطبين وألحرب ألباردة بينهما كانت على أشدّها فألقطب ألأوّل كان يضم ألولايات المتحدّة ألأمريكية وحلفائها ألغربيين في حلف ألناتو وألّذين كانوا يُمثلّون ألعالم ألرأسمالي، أمّا ألقطب ألثاني فكان يضم بين جناحيه ألأتحاد ألسوفيتي وحلفائه مِن ألدول ألإشتراكية في حلف وارشو.
وصلّت رياح ألمد ألأحمر إلى عدد مِن ألدول ألعربية وكان ألشعب ألعراقي مِن أكثر ألشعوب تأثرا بألأفكار ألماركسية فأنتشرت ألشيوعية بين ألعمّال وألمثقفين، وشكّل ألحزب ألشيوعي ميليشيا بأسم ألمقاومة ألشعبية وبسطوا سيطرتهم على بعض مراكز ألقوّة في ألجيش وبألأخص ألفرقة ألثانية ألّتي كان مقرها في مدينة كركوك حيث عُيِّن ألشيوعي داوود ألجنابي قائدا لها بعد إقصاء ألقائد ناظم ألطبقجلي لإتهامه بألمشاركة في ثورة عبدألوهاب ألشوّاف ألّتي تلتها مجزرة ألموصل ألرهيبة، ومما زاد ألطين بلّة إنضمام بعض ألأكراد إلى ألحزب ألشيوعي وشكلّوا تحالفا ثنائيا ضد ألقوميين مِن ألعرب وألتركمان.
أحداث جسيمة جرت بعد أصدارَ ألزعيم عبدألكريم قاسم عفوا عن ألملّا مصطفى ألبرزاني، زعيم ألحزب ألديوقراطي ألكردستاني ألّذي كان منفيا ولاجئا في روسيا، وفي يوم إيابه أختار الهبوط عمدا في مطار كركوك، فخرج أعضاء حزبه مع ألشيوعيين لإستقباله وقاموا بمظاهرات أستفزازية ضد ألتركمان وخربّوا قسما مِن متاجر ألمواطنين وعند مرورهم مِن شارع أطلس تمادوا في إستفزازاتهم ممّا أدّى إلى وقوع صِدام بألسلاح ألأبيض بين ألمتظاهرين وعدد مِن شباب ألتركمان ألّذين كانوا يجلسون في مقهى ( أصلان يواسي ) أيْ مقهى عرين ألأسد، وأدّى هذا ألصِدام إلى جرح عدد مِن أفراد ألمجموعتين ألمتقاتلتين.
بدأ ألمواطنون ألعراقيون وبألأخص ألقوميون ألعرب في مدينة ألموصل وألتركمان في مدينة الذهب ألأسود بمقاومة ألمد ألشيوعي بمختلف ألوسائل ألسلمية ورفضوا ألإنسياق وراء هذا ألتيّار ألجارف لذلك بدأت معاناتهم. مِن أسباب مقاومة ألشيوعية مِن قبل ألمواطنين رفض ألشيوعيين ألعقائد ألدينية وتشريعاتها، ومِنْ ألشعارات ألطريفة ألّتي كان ألشيوعيون يرددونها ” ماكو مهر ماكو مهر، ذبّينا ألقاضي بألنهر “، وكان هدف هذا ألشعار إشاعة ألإباحية ألجنسية ورفض ألزواج حسب ألشريعة ألإسلامية أو ألمسيحية وهدم ألنظام ألأسري.
بعد مجزرة ألموصل نفّذ ألحزب ألديموقراطي ألكردستاني مع حلفاءه مِن ألشيوعيين وبتخطيط مُسبَق مجزرة رهيبة في مدينة كركوك وذلك في مساء ألخامس عشر مِن تمّوز مِن عام 1959 وأثناء إحتفال جماهير ألشعب ألعراقي ومنهم أهالي كركوك بألذكرى ألأولى لثورة ألرابع عشر مِن تمّوز حيث تعاونت ميليشيات ألمقاومة ألشعبية ألتابعة للحزب ألشيوعي ألعراقي مع قوّات ألبيشمركة ألتابعة للحزب ألديموقراطي ألكردستاني وزحفوا إلى كركوك مِن ألقصبات وألقرى ألكردية ألواقعة في شمال ألعراق وبأوامر مِن ملّا مصطفى ألبرزاني، وكان جلال ألطالباني في تلك ألفترة قياديا في ألحزب ألديموقراطي ألكردستاني ويتحمّل جزءا مِن مسؤولية هذه ألمجزرة ألرهيبة إضافة إلى قائد ألفرقة ألثانية ألشيوعي داوود ألجنابي ألّذي نال جزاءه ألعادل بإعدامه بعد قيام ثورة ألثامن مِن شباط عام 1963.
لقد راح ضحية مجزرة كركوك أكثر مِن خمسين مِن ألأبرياء مِن ألرجال وألنساء وألأطفال وبعد مرور ألأيام ألثلاث للمجزرة بلياليها أرسل ألزعيم عبدألكريم قاسم أللواء ألمتجحفل في مدينة بعقوبة بقيادة عبدألرحمن عارف إلى كركوك وسيطروا على ألوضع ألأمني في ألمدينة وذلك بعد أنْ أبلغه ألزعيم عبدألله عبدألرحمن بتفاصيل ألأمر في مقر ألزعيم عبدألكريم قاسم في وزارة ألدفاع حيث أنَّ أعضاء الحزب الديموقراطي الكردستاني والشيوعيين كانوا يُبرقون إليه برقيات مُلفقّة يدّعون فيها بأنَّ ألتركمان قاموا بمؤامرة ضد ألجمهورية وأعتصموا في قلعة كركوك ويطلقون ألنّار على ألقوات ألحكومية .
هذه ألمجزرة أتصّفت بأقسى أنواع ألوحشية مِن نهب لممتلكات ومتاجر ألتركمان وقتل وسحل في ألشوارع وتعليق للجثث على أعمدة ألكهرباء وألأشجار، وألأدهى مِن ذلك قيامهم ببيع لحوم ألضحايا في مزاد علني. إنّها وصمة عار في جبين مقترفيها ونقطة سوداء في تاريخ ألحزب ألديموقراطي ألكردستاني وألحزب ألشيوعي ألعراقي.
مِن أهم أسباب تخطيط وتنفيذ ألحزب ألديموقراطي ألكردستاني لهذه ألمجزرة ألأليمة أطماعهم في مدينة كركوك ألّتي تطفوا فوق بحيرة مِن ألذهب ألأسود، هذا ألسائل ألدموي ألّذي أصبح لعنة على ألتركمان وألشعب ألعراقي ألصابر. لقد كان هدفهم ألأوّل ترهيب ألسكّان ألأصليين مِن ألتركمان ليهاجروا إلى مناطق أُخرى مِن ألعراق أو إلى خارجه.
لقد تركَتْ هذه ألأحداث في نفسي وأنا صبيٌّ في ألعاشرة مِن ألعمر أبلغ ألأثر وأثخنَتْ جسم مدينتي بجراح لا تندمل، وأدّت إلى وقوع أحداث دامية أُخرى، فألعنف يولّد ألعنف، فبعد محاكمات صوريّة وأحكام طفيفة لقسم مِن منفذي ألمجزرة، خرج هؤلاء مِن ألسجون بعد فترة وجيزة وبدأوا يسرحون ويمرحون في كركوك مرّة أُخرى.
بدأ ألتركمان في كركوك وألموصل يعدّون ألعدّة للقضاء على هذه ألزمرة ألباغية، فتشكلّت خلايا سريّة للمقاومة وبدأ ألمجرمون يتساقطون واحدا تلو ألآخر ولَمْ يسلَم مِن هذا ألإنتقام ألمشروع إلّا مَنْ ولّى ألأدبار وترك ألمدينة إلى غير رجعة. لا يوجد أنسان واعي يُقِر أسلوب ألعنف لحل ألنزاعات بين ألبشر، ولكن ألإحساس بألظلم وعدم تطبيق ألعدالة بألأقتصاص مِن ألمجرمين يدفع ألإنسان إلى ألإنتقام ومحاولة تطبيق ألعدالة بقدراته ألذاتية، وهذا ما فعله فتية مِن ألتركمان آمنوا بحقوق قومهم في ألعيش ألكريم في وطنهم ألعراق، فانبروا للدفاع عن أنفسهم وضحّوا في سبيل ذلك بتضحيات جسام سيسجّلها ألتاريخ بأحرف مِن ذهب، فقسم منهم أُعتِقِلَ وأمضى في ألسجن ريعان شبابه وقسم آخر ألتجأ إلى بلدان أخرى بعد صدور أوامر بالقبض عليهم، كما تمَّ إعدام ألبعض منهم في عهد صدّام حسين.
كنت أثناء هذه ألأحداث ألجِسام طالبا في ألمرحلة ألرابعة مِن ألدراسة ألإبتدائية، وكانت عائلتي قد أنتقلت مِن مسكننا ألقديم في محلّة صاري كهية ألى مسكن حديث نسبيا في محلّة إمام عبّاس، وقد حاول قسم مِن ألزمرة ألمجرمة أثناء ألمجزرة إقتحام ألدار بغية قتل شقيقي أورخان ولكنّه كان لحسن ألحظ في ألعاصمة بغداد للمشاركة في ألإحتفال ألسنوي ألأوّل لثورة ألرابع عشر مِن تمّوز ضمن وفد ألمواطنين ألتركمان ولكنَّ ألغوغاء وألفوضويين نهبوا مكتبة والدي مع معظم متاجر أهالي ألمدينة مِن ألتركمان ممّا أثَّر سلبا على ألحالة ألمادية للعائلة وزاد مِن معاناتنا.
· ألتسمية ألمحلية للطبّاخ هي: بريمْز
…..يتبع
من مسوّدة كتاب (لعنة ألذهب ألأسود) للكاتب