18 ديسمبر، 2024 7:20 م

لعنة الذهب ألأسود- 10

لعنة الذهب ألأسود- 10

لا اذكر تفاصيل هذه الفترة العصيبة من حياتي جيّدا لأنّ عقلي لفّه ضباب كثيف من النسيان، ولكنّي اتذكّر انّي مررت بفترات من الكآبة الشديدة كنت انفرد فيها في احدى الغرف لساعات وربّما لايام طويلة، وحدث ان أُغمي عليّ عدة مرّات بعد حالات شديدة من الهيستيريا، وكنت في بعض المرّات اتفوّه بكلمات لامنطقية او اتصرّف بتصرّفات غريبة، ففي فجر احدى ايام الصيف تسلّقت سور حديقة بيتنا لكون باب السياج الخارجي موصدا وابتعدت عن البيت وظللت سائرا في شوارع مدينة الذهب الاسود حتّى وصلت الى الضواحي الشمالية للمدينة وبعد ان جلست في الخلاء على شاهد قبر قفلت راجعا الى الدار حاملا معي بعض الزهور والاشواك البريّة.
وفي احدى الليالي اسريت في ازقّة وشوارع بغداد لساعات طويلة محملقا في مصابيح الانارة لاعمدة الشوارع بحيث انّ دورية لشرطة النجدة شكّت في امري، وبعد ان تمّ توقيفي في مركز الشرطة لفترة قصيرة اعادوني الى الفندق الّذي كنت اسكن فيه بسيارة النجدة بعد ان تيقنوا من هويتي الجامعية ولاحظوا حالتي النفسية المتدهورة فعندما قال لي معاون المركز:
–         سأوقّفك في النظارة حتّى الصباح لكي نتحقق من امرك.
 اجبته بثقة:
–         حتّى لو اوقفتني فانّي استطيع الخروج من النظارة طائرا.
الحديث عن الطيران ذو شجون، فقد كنت في تلك الفترة العصيبة من حياتي احلم كثيرا اثناء النوم بأنّي اطير في الجو محرّكا يداي كاجنحة طائر، قد يكون سبب ذلك مرور الانسان في رحلّة تطوّره من خلية بدائية بمرحلة الطيور حسب نظرية التطور لتشارلس داروين واشتياقه الى تلك المرحلة من تطوّره، وقد يكون الطيران في حلمي رمزا للهروب  من ازمتي او رمزا لخروج الروح الّفه لاشعوري لانّني جبنت من تنفيذ رغبتي في الانتحار عندما كان عقلي الواعي مسيطرا على زمام الامور في اليقظة.
الكاتب المصري الدكتور مصطفى محمود تناول في مؤلفه ( الاحلام ) بالتفصيل آلية تكوّن الاحلام، كما انَّ العديد من علماء النفس كيونغ وبرجسون وسيجموند فرويد لهم باع طويل في موضوع تفسير الاحلام بالرغم من انَّ فرويد يغلب عليه عامل الجنس في تفسيراته للاحلام وهذه هي احدى مثالب نظريته.
خلاصة القول انّ الحلم يتكوّن في العقل الباطن ( اللاشعور ) للانسان النائم باستخدام ارشيف المعلومات والذكريات الموجودة في دماغ الحالم وذلك بتأليف سيناريو مُبهَم وباستعمال رموز بدل الاحداث والشخصيّات الحقيقية.
انّ المؤثرات في تكوين الاحلام عديدة، فمثلا حدوث حادثة او اجراء حديث او مشاهدة فلم قبل النوم بفترة وجيزة او قبل عدّة ايام وكذلك رغبات الانسان المكبوتة كالرغبات الاقتصادية والجنسية والبيولوجية الاخرى وحالته النفسية، فمثلا لو تشاجر احدهم مع مديره في العمل فقد يرى في الحلم مديره على شكل مخلوق بجسم انسان ورأس حمار هذا اذا كان يعتقد في قرارة نفسه انّ مديره غبيٌّ وانّه ظلمه في تلك الحادثة، يضاف الى ذلك تاثيرات البيئة المحيطة بالنائم كسماع الاصوات والضوء الساقط على عين النائم والروائح التي يتنشقها مع الهواء. مثال آخر على تأثير الاصوات الّتي نسمعها اثناء النوم يرويه العالم النفساني سيجموند فرويد، يقول فرويد: في ليلة آويت الى الفراش بعد نهار مرهق قضيته في القاء المحاضرات على طلبتي في الجامعة ثم نمت فحلمت باني القي محاضرة في القاعة على طلبتي، بعد فترة قصيرة سمعت همهمة وبعد ذلك تعالت اصوات الاستنكار من الطلبة وكانت تردد (آوت OUT… آوت OUT … آوت OUT ) اي اخرج الى الخارج باللغة الانكليزية، ثم استيقظت من النوم فزعا وسمعت صوتا صادرا من خارج غرفة النوم، صوت كلب ينبح تحت نافذتي بمقاطع مقاربة لصيحات الطلاب في الحلم. نفهم من هدا الحلم ان فرويد وبتاثير نباح الكلب استرجع من ارشيف ذاكرته وهو استاذ محاضر في الجامعة مع الطلبة بعض ذكرياته وصاغها في الحلم بعد ترميزها وبتاثير نباح الكلب قرب نافذة غرفة النوم.
انّ افضل من يفسّر الحلم هو الحالم نفسه، لانه المؤلّف وكاتب السيناريو والمخرج والممثل في انٍ واحد.
لتوضيح الية تكوّن الاحلام وتفسيرها ساذكر مثالا لحلم فسّرته لصديق.
كنت اعمل في احدى الدوائر الهندسية في بغداد وكان لي صديق في نفس القسم الذي كنت اشتغل فيه، هذا الصديق كان يحب زميلة لنا ولكن الحبّ كان من طرف واحد، وعندما كاشف صاحبي زميلتنا بحبه ردّته بلطف وتمنّت له السعادة.
جاءني صديقي صباح احدى الايام وروى لي حلمه وهو يبتسم وعلامات الانشراح بادية في اساريره، قال صديقي بانه حَلُمَ الليلة الماضية بانه كان في المصعد مع زميلتنا وفجاة توقّف المصعد لانقطاع التيّار الكهربائي، مضت فترة طويلة ونحن محبوسان في المصعد، ولكنّي لم اشعر بالقلق او الخوف او الملل بل بالعكس كنت اشعر بالسعادة اثناء الحدث. 
نتيجة لمطالعاتي حول موضوع الاحلام استطعت من تفسير حلم زميلي العاشق، وقد اصابه العجب عندما استمع الى التفسير وبدت على وجهه امارات التاييد.
انّ رؤية صديقي لهذا الحلم كانت نتيجة للرغبة الكامنة في نفسه من الزواج بزميلتنا التي كان يعشقها، فالمصعد المغلق عليهما يرمز الى عش الزوجية ( القفص الذهبي ) وانّ شعوره بالسعادة اثناء الحدث ناجم عن احساسه بانَّ عش الزوجية ضمَّت كليهما بين جدرانه، ونظرا لشعوره باستحالة تحقق امانيه في الواقع فانَّ رغباته المكبوتة انطلقت من اسارها في هذا الحلم الممتع.
 
انّ القلق حالة من التوتر تنتابنا حينما ننقسم في داخلنا ونشهد رغباتنا وهي تقتتل وتتصارع، انّها اللحظة الاليمة الّتي تتجلّى فيها عداوتنا لانفسنا، وهي عداوة مُفزِعة لانّ لا شيء فيها يُمكن لمسه بالاصبع او رؤيته رؤية العين. انّ اللحظات تصبح عبثا والحياة تصبح كابوسا والقلب يصيح جثّة يفوح منها الملل والسأم والضجر والصيحة الوحيدة الّتي تبقى لنا هي الخلاص…. والخلاص من نفوسنا.
في اثناء ازمتي النفسية هذه كانت عائلتي تراقبني بقلوب واجفة تُمزّقها الاسى والالم، ولكنّهم لم يتروكوني اجابه مصيري القاتم لوحدي، كانوا يعاملونني بعطف بالغ ويحاولون مداواة جراحي الغائرة في اعماقي والّتي كانت تنزف الما وشقاء.
كان والدي، هذا الشيخ الصابر يتألّم بصمت لالمي وكنت الحظ احيانا الدموع في مقلتيه وهي تنزلق بين الاخاديد الّتي حفرتها معاول الزمن على وجهه. في محاولة لانقاذي اصطحبوني الى بغداد لعرضي على طبيب نفساني شهير، بعد الاستفسار عن حالتي كتب لي الطبيب وصفة تتضمن بعض الحبوب المهدّئة وبعض الحبوب الاخرى الّتي ستساعد في شفائي من المرض الّذي كنت اعاني منه واقاسي من اهواله.
نتيجة لتأثير العلاج ومرور الايام الّتي تُنسي الالام والاحزان وتكاتف عائلتي بدأت صحّتي بالتحسن التدريجي ودخلت في دور النقاهة، ولكنّ حالات الكآبة والقلق والارق لم تفارقني لفترة ليست بالقصيرة.
كان قرار عائلتي بارسالي الى خارج العراق للراحة والاستجمام قرارا حكيما، وربّما كان بنصيحة من الطبيب المعالِج. بعد ان قضيت شهرا من صيف عام 1972 في تركيا في السياحة وزيارة عائلة شقيقي اورخان في اسطنبول عدتُ الى الوطن وقد تحسنت صحّتي تحسّنا ملحوظا وبدأتُ بالعودة الى حياتي الطبيعية بخطى وئيدة.
من مسوّدة كتاب (لعنة ألذهب ألأسود) للكاتب