لعنة الخطأ الاستراتيجي

لعنة الخطأ الاستراتيجي

اخطأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حساباته ومن ثم قراره بالتخلي عن الرئيس السوري حينما اوهمه رجال استخباراته بان العلاقات السرية التي اقاموها مع الجماعات المسلحة ومنها هيئة تحرير الشام ستؤمن مصالح روسيا حتى لو استولت هذه الجماعات على السلطة .
هذا الخداع الاستراتيجي، لا شك ستدفع روسيا ثمنه غاليا، لانها وقعت في الفخ الغربي الذي غايته في نهاية المطاف اضعاف الاقتصاد الروسي ومن ثم سيؤدي الى حصول اضطرابات ستسفر عن تفكيك الاتحاد الروسي لازالة هذه القوة العالمية التي بدأت تفقد قواها الاستراتجية منذ عام 1991.
لكن من السذاجة تصور ان الرئيس بوتين غفل عن الاهداف العدائية خلف المشروع الغربي في سورية وانه يدرك تماما بان ماحدث من انقلاب في سورية في جوهره هو ( حرب اقتصادية – بترولية ) وانها رد فعل غربية حيال الحرب على اوكرانيا،.
فالحرب الروسية الاوكرانية كانت محاولة غربية لاستدراج موسكو الى مزيد من الاستنزاف الاقتصادي والسياسي والامني وهي آلية حققت بعض الاهداف جزئيا ومنها انكشاف ضعف القدرة الروسية على حسم معركة حدودية مع اوكرانيا الدولة المجردة من عناصر القوة والقدرة باستثناء انتاج القمح وتفريخ عصابات الاتجار بالبشر .
بالمقابل ، اظهرت الحرب مديات تأثير القوة الروسية الاقتصادية حينما تعرضت امدادات الغاز الروسي الى اوروبا لبعض العراقيل ما كشف عن واحدة من ابرز نقاط الضعف في الغرب الاوروبي الذي اذعن تحت ضغط الحاجة فيما بعد للشروط الروسية المذلة حول آليات تسديد العوائد .
هنا اندفع الغرب نحو التخطيط لايجاد البدائل سعيا نحو الاستغناء عن الغاز الروسي وبناء مسار لنقل الغاز الخليجي الى اوروبا عبر سورية وبالتالي حرمان الاقتصاد الروسي من عوائد مبيعات الغاز الى اوروبا ومن ثم خسارة موسكو هذا السلاح الموظف جيدا في الساحة السياسية الغربية لروسيا .
قبل عشرين عاما تركز المشروع الاوروبي لنقل الغاز حول مدينة البصرة جنوبي العراق لتكون المحطة الدولية لتسويق الغاز من دول الخليج ومنه الغاز المستخرج من حق ( پارس ) جنوب ايران والذي تعتبره وكالة الطاقة الدولية الخزين البديل للمئة عام القادمة .
لكن تعثر النظام السياسي الجديد في العراق بعد عام 2003 وفشله في تقديم اوراق استقراره الى المجتمع الدولي ، دفع المخططين الغربيين نحو الاستغناء عن مشروع ( طريق التنمية ) عبر العراق والبحث عن بدائل اخرى .
قبل ذلك وفي منتصف عقد التسعينات من القرن الماضي ، طرحت الفكرة على مجلس التعاون الخليجي وقد حدد مسار شبكة الانابيب ومحطات ضخ الغاز على طول شواطئ الخليج العربية مرورا بالعراق والى سورية وتركيا ، إلا ان المشروع جوبه بالتردد البريطاني وايضا بالخلافات العراقية السورية والكويتية السعودية ، وتحجج انذاك امير الكويت ( بتحريض من بريطانيا ) بان بلاده الاقل انتاجا للغاز وقال حينها (لامصلحة من ان تكون الكويت معبرا لمنافع الآخرين …) ويقصد تحديدا العراق .
مع اندلاع ما سمي بثورات الربيع العربي في عام 2011 جائت الفرصة لاعادة طرح مسار جديد لمشروع نقل الغاز عبر السعودية – الاردن – سورية ، بدلا من المسار العراقي ، إذ كلف الرئيس باراك اوباما كلا من السعودية وقطر بمهمة تمويل وادارة الحرب لاسقاط الرئيس بشار الاسد وذلك على الرغم من بدء روسيا تدشين قاعدتين عسكريتين واستخباريتين لها على السواحل السورية هو ما فهم على ان واشنطن كانت مطمئنة بان الجانب الروسي لم يكن يعتمد عقيدة المواجهة للدفاع عن سورية باعتبارها اراضي للمصالح الروسية .
ثلاثة عشر عاما صمدت خلالها سورية واخيرا انهار كل شيئ بطريقة مفاجئة امام انظار الحليف الروسي الذي ظهر وكأنه تواطأ مع بريطانيا واميركا في الاطاحة بالرئيس بشار الاسد وتولي الجولاني السلطة في دمشق .
ان خطأ التقديرات الروسية في سورية ،لم يكن آنيا ولحظويا ، فالولايات المتحدة وبريطانيا اللتان تبنتا مشروع التغيير في سورية ، عملتا على مراحل لاستغلال ،مشكلة العقل الروسي المتسم بضيق الافق وحبيس فكرة ( المكاسب الآنية ) وهي الزاوية المحدودة التي كانت وراء العديد من الاخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها القادة الروس على مدى قرن في سياساتهم الداخلية والخارجية .
إذ يعتقد مخططو الاستراتيجيات في المعسكر الغربي ان العقلية الروسية تتبنى مبدأ تفاوضي يقوم على اساس القبول بالفتات من حصيلة التفاهم حول الازمات وذلك خشية تضخم الازمة وارتدادها سلبا بتأثير اكبر على المصالح الروسية.
والواقع هو ان روسيا في حقبتي السوفيتية والبروسترويكا ، خسرت اوراق القوة امام المنظومة الغربية ، وقد شخص الغرب ذلك بعيد الحرب العالمية الثانية ، حينما تحولت هزيمة النازية الى انتصار لتوسع المعسكر الغربي الذي امسك باوراق النفوذ والتأثير في غرب اوروبا وانشأ ستارا حديديا فاعلا ، في حين قبل الاتحاد السوفيتي (المنتصر الحقيقي على الارض ) بالسيطرة على سهوب الصقيع الفقيرة في اوروبا الشرقية التي تحولت الى عبئ عليه فيما بعد .
ويبدو ان تلك اللعبة المخادعة في طريقها الى الاستنساخ ، ففي حال استقرار سورية ، سوف يتحقق مشروع نقل الغاز القطري عبر سورية وتركيا والى اوروپا ، ما من شأنه ان يؤدي الى سقوط سلاح الغاز الروسي بيد الرئيس بوتين ، وتتوقع بريطانيا والولايات المتحدة ان تحقيق هذا الهدف ستسفر عنه ارتدادات سلبية على الاتحاد الروسي اكثر قساوة بدرجات من ارتدادات سقوط جدار برلين والذي ادى الى تساقط احجار الدومينو الملونة السوفيتية …

أحدث المقالات

أحدث المقالات