لعله من غريب الأمور والخارج عن المألوف أن يتحول مفهوم الثقافة المشبع بالدلالات الرمزية والمفعم بالمضامين الحضارية ، من وظيفته الفكرية المتسامية حيث تنوير العقل وتثوير الوعي وتطوير الشخصية إلى ما يشبه اللعنة البرومثيوسية التي ما انفكت تطارد رهط المثقفين الممسوسين ( بلوثة ) حب الوطن ، والمعتصمين بحبل الجماعة الوطنية ، والمتخندقين بقيم التآخي القومي والتآلف الديني . بعد أن جردتهم فتن السياسة وأطماع السياسيين ذخيرة التعاطف الإنساني وأفقدتهم حس المسؤولية التاريخية التي يتوفرون عليها ، وأحالت ، من ثم ، ملكة الوعي وفضيلة المعرفة اللتان طالما امتازوا وتميزوا بهما إلى أتون محنة وجودية لا تني تستمطرهم بوابل من ويلاتها المتفاقمة ومصائبها المتعاظمة ؛ ابتداء بأبسط أنواع المعاناة الاقتصادية والمكابدات النفسية وانتهاء بأشد خطوب الاغتيالات العقلية والتصفيات الجسدية . بيد أن مقاربة واقعية لبيئة المجتمع العراقي الحالي واكتناه ما يعتمل في رحم عناصره وبيئة مكوناته من تجاذبات سياسية وصراعات اجتماعية وانزياحات قيمية ، قمينة بإماطة اللثام عن مغزى هذا التحول الغريب في منظومة الثقافة العراقية التي أضحت كابوسا”بات يقضّ مضاجع المثقفين المسكونين بهموم العباد وشجون البلاد . ليس بالمعنى الذي يجعلها مصدر استنفار إيديولوجي متعارض بين الكتل والتيارات ، ومعين تعبئة سيكولوجية مستقطبة بين الأفراد والجماعات ، الأمر الذي يسقط عنها مسمى (الثقافة) ويجردها سمات (الوعي) ، وإنما بالمعنى الذي يحيلها إلى رؤية نقدية ( تحليلية تركيبية ) تشتبك بضراوة بكل ما يحفل به الواقع العراقي من قباحات مذهبية وبشاعات عنصرية وانحرافات وطنية اتخذت لنفسها مواقف واصطنعت لكيانها آليات . وهو الأمر الذي بات يعمق عزلة المثقف الأصيل ويضاعف من شقاء وعيه ومكابدات ذاته ، ذلك لأن قوى الفوضى وعلاقات الاستزلام الضاربة أطنابها في كل مرفق ومؤسسة ، لا يستقيم لها الأمر إلاّ بحرمان هذا النمط من المثقفين من ممارسة دورهم العضوي ، ولا يساس لها القياد إلاّ بالحيلولة دون تبؤهم المكانة القيادية في مجتمع موغل في الخراب وآيل إلى التفكك . لذلك فمن الضروري – في عرف تلك القوى الطارئة والدخيلة – أن يبقى المثقف منبوذا”ومهمشا”خارج أسوار اللعبة يجتر أحلامه الطوباوية ويتسلى بأفكاره الدونكيشوتية . والحقيقة انه ليس من طبيعة أي ثقافة – بما هي منظومات فكرية وأنساق معرفية ومرجعيات رمزية – أن تمارس هذا الضرب من الإسقاط الاجتماعي والنكوص النفسي ، حتى يتسنى لنا وضعها في قفص الاتهام ومقاضاتها على هذا النحو من القسوة ، حيال ما يتعرض له المجتمع من عوامل التصدع في بنيته التحتية والتمزق في نسيجه التكويني ، فضلا”عما يعانيه الفرد من ضروب الاعتلال في سلوكه الشخصي والاختلال في تفكيره الذاتي . إلاّ ان ما يسوغ لنا تحميل الثقافة مسؤولية ما يجري من تردي الأوضاع السياسية والأمنية وانهيار الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية ، وتفكك الروابط الثقافية والعرفية ، هو إنها في الوقت الذي تضع بين يدي المثقف وتحت تصرفه امتياز جهازها المفاهيمي وغنى عدتها المعرفية ومعين قدراتها التحليلية وثراء رصيدها اللغوي ، لمعاينة حراك الواقع وتوصيف علاقاته وتأويل خطاباته وإدراك معانيه من جهة ، فهي لا تسعفه ولا تعينه ، من جهة أخرى ، بشئ حين يحتاج إلى ما يقوّم به اعوجاجات ذلك الواقع ويعالج انحرافات مكوناته ، بقدر ما تضع على كاهله أوزار تلك الاعوجاجات والانحرافات ، باعتبار أنه عنصر طليعي في المجتمع ورمز من رموز نخبه لا في ميادين القيادة السياسية والتنمية الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية فحسب ، وإنما في مجالات التربية الوطنية والنهضة الثقافية والتوعية الفكرية أيضا”. وهو ما لم يتح له الاضطلاع به والاشتغال عليه لحد الآن ، لا في ميادين المهمات الأولى ولا في مجال الواجبات الثانية ، بحيث تظهر النتيجة – كما استخلصها أستاذ السوسيولوجيا الثقافية الطاهر لبيب – ((ان المثقف ليس محاصرا”فحسب ، بل يحاصر نفسه أيضا”بمعرفته وإنتاجه))(1) . مما يستتبع تعاظم المشاكل وتفاقم الأزمات للحد الذي يتعذر معه معالجة عواقبها والسيطرة على تداعياتها باللجوء إلى ما يتوفر عليه البعض من نوايا حسنة ومشاعر نبيلة ، دون اجتراح ما يمكن وصفه بالأفعال الجسورة والممارسات المضنية التي يفترض بعناصر المجتمع كافة النهوض بأعبائها والتصدي لافرازاتها ، لاسيما قادة الرأي الديني وصنّاع القرار السياسي الذين يتحملون المسؤولية الفعلية والمباشرة لكل ما جرى ويجري في العراق الجريح . من هنا فان ما ينسب من أهمية لدور المثقف التحويلي والتنويري الذي ينبغي أن يقوم به – قولا” وفعلا”- في إطار ما يشهده الواقع من تصدعات وما تعرض له من انكسارات على الصعد كافة ، حيث باتت مخاطرها أشد من أن تترك لأهواء المضاربين وأطماع المتلاعبين بمصائر الشعب والوطن ، لا يعدو أن يكون وجها”واحدا”وليس الأوحد من وجوه هذه الواقعة ومظهرا”مهما” وليس الأهم من مظاهرها المتنوعة ، ليس من الحكمة ولا الإنصاف التمسك به والتعويل عليه لانتشالنا من هذه المزالق وإنقاذنا من تلك المهالك . في حين يترك البعض يمارس حماقاته دون مساءلة ويعفى البعض الآخر عن تجاوزاته دون محاسبة تحت شتى العناوين والمسميات . وهذا لعمري لن يكون ميسورا” بلوغ غايته وتحقيق مأربه بالاعتماد على ما يراه البعض ممن يكتفون بمناشدة الضمير الجمعي للمثقف الوطني الذي أمسى نهبا”لكل ضروب الهواجس النفسية والمخاوف المصيرية التي باتت تلازمه كظله ، وكأن بحوزته عصا” سحرية تمكنه من اتيان الأعاجيب واجتراح المعجزات ، في زمن تحول فيه المجتمع العراقي إلى ما يشبه الجحيم حيث الأعاصير السياسية والزلازل الأمنية والدوامات الاجتماعية تضرب به من كل جانب على نحو لم يشهده تاريخه من قبل .
* سوسيولوجيا الثقافة وسيكولوجيا المثقف *
ليست الثقافة فكرة عرضية انبثقت من بين دهاليز الوعي السحيقة لتتوج الإنسان على مملكة الواقع . بل هي بمثابة نبتة حيّة تنمو في رحم المجتمع وتتغذى على رحيق مكوناته . ولهذا فمن المتعذر ، لا بل المستحيل تصّور وجود ثقافة بدون حاضنة اجتماعية ترعاها وتمدها بأسباب البقاء والاستمرار . كما أنه من العسير العثور على نمط واحد من أنماط الثقافة يصلح لجميع أصناف الشعوب ومختلف مشارب الأمم ، من حيث ان موشور الوعي الثقافي يعكس بالضرورة ألوان الطيف المجتمعي مبرزا”الخصائص القومية ومجسدا”الاختلافات الحضارية التي تحفل بها الإنسانية عموما”في ضوء تجاربها التاريخية وممارساتها الاجتماعية . فالثقافة برأي هردر (( ليست سردية كبرى أحادية الخط من سرديات الإنسانية الكونية ، وإنما هي تعدد في الأشكال الحياتية الخصوصية ، التي يتمتع كل منها بقوانين تطوره الخاصة ))(2) . فما يجري على أرض الواقع من تفاعلات وتقاطعات وما ينتج عنها من تغييرات وتحولات لابد – عاجلا” أم آجلا”- وأن يجد صداه في رحاب الثقافة وأروقة الوعي ، تعبيرا”عما يختلج في كيان المجتمع المعني من إرهاصات واستجابة لما تراود مكوناته من تطلعات . هذا من ناحية ، أما من الناحية الثانية فان الأصول السوسيولوجية والخلفيات الانثروبولوجية الرابضة في قاع الشخصية الاجتماعية ، لا تحدد فقط طبيعة الثقافة السائدة ونمط الوعي الشائع في المجتمع فحسب ، بل إنها تؤطر ما يستبطنه المثقف من قيم فكرية وما يحتكم عليه من عادات اجتماعية وما يجتافه من مؤثرات نفسية أيضا”، بحيث ان كل ما يأتيه من أفعال وكل ما يصدر عنه من ممارسات ما هي إلاّ تجليات نوعية لخصائص ذات المجتمع الذي يولد فيه وينتمي إليه ، ولكن بأشكال وتعبيرات رمزية مجردة تتناسب ومستويات التطور التي بلغها في مقاييس التمدن وأشواط التقدم التي قطعها في سلم التحضر . ولهذا فان كل تجديد يطال بنية الثقافة العامة ونسق الوعي الاجتماعي يعد خروجا” عن مألوف الجماعة وتحديا”صارخا”لأعرافها المتوارثة وتقاليدها المتعاقبة ، لاسيما في المجتمعات العليلة التي تشكو قلة الحراك في دينامياتها وكثرة الاحتقان في علاقاتها واستشراء الجمود في ثقافاتها وشحة الإنتاج في إبداعاتها . ذلك لأن المثقف – بحسب سارتر – (( هو الإنسان الذي يدرك ويعي التعارض القائم فيه وفي المجتمع ، بين البحث عن الحقيقة العملية ( مع كل ما يترتب على ذلك من ضوابط ومعايير ) ، وبين الايديولوجيا السائدة ( مع منظومتها من القيم التقليدية ) . وما هذا الوعي ، بالرغم من أن المفروض فيه ، حتى يكون فعليا” وواقعيا” ، أن يتم لدى المثقف على مستوى نشاطاته المهنية ووظيفته أولا” ، ما هذا الوعي سوى كشف للنقاب عن تناقضات المجتمع الجوهرية ))(3) . والحال إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار مظاهر التصدع الاجتماعي التي يعاني من أعراضها المجتمع العراقي أفقيا” وعموديا”، أدركنا من فورنا أسباب تردي حال الثقافة العراقية القائمة وانحدار مستواها النوعي ، واكتشفنا ، فضلا”عن ذلك ، مبررات انكفاء سيكولوجيا المثقف ومسوغات نزعته التشاؤمية حيال ما يجري من صراعات سياسية وما يتمخض عنها من تمزقات اجتماعية وما يتراكم حولها من استقطابات طائفية وعنصرية حادة . فالنسغ الاجتماعي الذي تمتح منه الثقافة العراقية مقومات وجودها وتستخلص منه عناصر فاعليتها ، اختلطت مكوناته مع مختلف أنواع التعصب العرقي التطرف المذهبي والتذرر القبلي ، بعد أن أفقدته مخلفات الحروب والمنازعات نقاء منبعه الإنساني وصفاء محتواه الوطني . وهو الأمر الذي انعكس باكرا”على هوية الثقافة وسيرورة الوعي بأشكال وتلاوين شتى ليس أقلها الانكفاء نحو الأنماط الكامنة من الثقافات الفرعية والولاءات البدائية التي أفاقت على دعوات العنف وضجيج العدوان ، بحيث تصدعت الثوابت في الوجدان الجمعي وتلاشت حرمة المرجعيات الرمزية التي عادة ما كان المواطن العراقي يلجأ إليها ويحتمي بها عند الخطوب والملمات حين تعصف بمصيره . وهكذا تكون الثقافة قد فقدت أحد أهم أركان وجودها كنمط من أنماط العقلنة الاجتماعية والشرعنة الدستورية التي تستهدف الانتقال بالمجتمع من سياقاته التقليدية البالية حيث التوحش في العلاقات والتوجس في المعاملات والانقسام في الانتماءات والتشرذم في الولاءات والتغالب في السياسات والتخوين في الإيديولوجيات ، إلى سياقات عصرية جديدة تراعي ضرورات التحام عناصر الهوية الوطنية المنسوجة بألوان الفسيفساء القومية والاجتماعية والدينية ، والمؤسسة على قواعد احترام حقوق الإنسان وتعزيز قيم المواطنة ، وتدعيم مؤسسات المجتمع المدني وضمان التقيد بآليات التداول السلمي للسلطة والتوزيع العادل للثروة . بعبارة موجزة تسهيل الانتقال من دولة الطوائف والعصبيات إلى دولة القانون والمؤسسات . وفي إطار هذا المشهد يمسي الانشطار في الموقف من القضايا الاجتماعية والسياسية في وعي المثقف مسألة حتمية تصنف إلى اتجاهين أو مسارين ؛ الأول – وهو الغالب للأسف- ينكفئ على عقبيه إما بصورة حادة ومفاجئة أو على مراحل وبالتدريج ، مندغما”في سيكولوجية الحشود المهيجة ، ليحاكي موروث عصبياته ويستنهض مخزون خرافاته ومتنكبا” خطاب الأنا ضد الآخر بكل أوصافه ورموزه ، بحيث يبدأ ، كلما أمعن في هذا المسلك ، بفقدان هالة ( الثقافة) التي كان يتبجح بها ويتحدث بأسمها ، متحولا بحسب الطلب إلى داعية إيديولوجيا قومية أو دينية أو مذهبية ، وهو ما يؤشر حالة الخطر التي يوشك المجتمع أن يجتاز عتبتها والانزلاق نحو هاويتها ، لاسيما حين يفقد المثقف بوصلة اتجاهه الوطني ويتنازل عن ثوابته المبدئية ويتخلى عن هويته السياسية . إذ ان خاصية هذا النوع ( المتثيقف ) لا تتأثر بالنوازل السياسية والانهيارات الاجتماعية إلاّ بقدر ما تتيح له التكيف والتلون بحسب مقتضى الحال ومطلب المصالح ، تارة لتبرير هذه الحالة أو تلك ، وتارة ثانية لتسويغ هذا الموقف أو ذاك . الأمر الذي يجعل صدى لغته الخطابية في السيكولوجيا الاجتماعية المجيشة ، تتميز بواقعية الطرح وراهنية المعالجة . هذا في حين توزع الاتجاه الثاني على خيارين أحلاهما مرّ ؛ إما إيثار الانكماش عن الجو الاجتماعي العام ونشدان الانزواء عن كل ما يتصل بشؤون السياسية وشجون الثقافة وهموم الاجتماع ، فضلا”عن التنصل عن كل مسؤولية أو مواجهة ذات طابع إشكالي تتطلب إبداء الآراء الحرّة والدفاع عن المواقف الجريئة . وإما التوجه صوب بلدان العالم الخارجي وتفضيل خيار الهجرة للنأي عن الانعطافات المفاجئة ودرء الاحتمالات السيئة ، مع التأكيد على ان اللجوء لهذا النفي الاختياري نابع من الإحساس بالعجز الإرادي وليس المعرفي عن مواجهة تيارات الفوضى ودوامات الاضطراب التي تجتاح المجتمع من الأقصى إلى الأقصى . مما يتسبب لهم بالكثير من المعاناة الفكرية والاحباطات النفسية نتيجة لرفضهم القبول بالتنازلات المبدئية والتكيف مع المساومات السياسية ، على حساب قيمهم الجمعية وانتماؤهم الوطني – كما نجح الأمر مع أقرانهم من أصحاب الاتجاه الأول – وهو ما أفضى إلى إقصاء فعل الثقافة وتهميش دور المثقف في الحياة الاجتماعية ، وأسهم من ثم بانفراط عقد الجماعة الوطنية وتغليب النوازع الطائفية والتعصبية والجهوية من جهة ، وتغييب مركزية الدولة وسلطة القانون وحكمة العقل من جهة أخرى .
* ترييف السياسة وتطييف الاناسة *
ليس صدفة أن يشتق معنى السياسة من كلمة المدينة (بوليس) اليونانية ، باعتبارها ترمز إلى علم إدارة وتنظيم المجتمع على أسس من الواقعية السياسية والتصورات الحضارية والعلاقات الإنسانية ، والانتقال بالمكونات الاجتماعية والتنوعات الانثروبولوجية من عالم الضرورة الطبيعي إلى عالم التاريخ النسبي عبر توسط عالم الفكر والثقافة . ذلك لأن ما تفعله هذه الأخيرة (( هو إنها تقطّر إنسانيتنا المشتركة من ذواتنا السياسية المنضوية في نحل وشيع ، حيث تستردّ الروح من الحواس ، وتنتزع الثابت من الزائل ، وتقطف الوحدة من التعدد ))(4) حيث تتداخل المعاملات وتتشابك العلاقات بين الأفراد والجماعات ، تحت إشراف وتوجيه سلطة مركزية واحدة (الدولة) منوط بها تحمل مسؤولية إدارة الشأن العام وتقنين عمليات حراك عناصره وتفاعل قيمها ، بما يضمن تحقيق العدالة وبلوغ المساواة بين الجميع ، بالاعتماد على ما تتوفر عليه من قوة مادية وهيبة اعتبارية لتسوية المنازعات الداخلية ودرء الأخطار الخارجية . وهذا يعني ان إمكانية إدارة الشأن الاجتماعي وتنظيم المجال السياسي لا يمكن أن تكون ناجعة وفعّالة إلاّ من خلال فرض السيطرة وبسط النفوذ على مجال حيوي (حيز جغرافي) محدّد الأبعاد ومشخّص المعالم ، يكون بمثابة علامة من علامات سلطة الدولة ودالة من دلالات حضورها ، بحيث يصبح خاضع لإشراف سلطة الدولة ومنوط بمؤسساتها ، فضلا”عن إمكانية ضبط التصرفات وردع التجاوزات التي لابد من حدوثها بين الأفراد والجماعات على خلفية اختلاف المصالح وتباين الارادات . وهذا ما يتيح فرص تعزيز مظاهر الاستقرار الداخلي وضمان مقومات الأمن الخارجي ، بعد أن تبلغ الروابط البينية درجة معقولة من التماسك والتجانس ، بحيث تتحقق وحدة المشاعر الاجتماعية وتتجذر أواصر الانتماء الوطني . وعليه فقد أشار الباحث والأكاديمي ( عبد الإله بلقزيز ) إلى دور الدولة التوحيدي معتبرا”ان(( من وظائف الدولة الحديثة إنجاز عملية سياسية ، واجتماعية ، واقتصادية ، وثقافية ، مركزية هي عملية التوحيد : توحيد المجتمع والمجال الوطني ، بل ان قيامها ، كدولة وطنية ، عصّي على التحقق دون إنجاز ذلك التوحيد الذي هو يقوم منها مقام الماهية . رافعة هذا التوحيد ، والأساس الذي يقوم عليه البناء الوطني برمّته ، هو توحيد التراب الوطني ؛ والدولة – في تعريفها القانوني المعاصر – هي التي تتحدد ، ابتداء ، بمجال ترابي تحكمه وتقوم عليه سيادتها . وعليه ، دون سيادة الدولة على أراضيها ، لا مجال للتفكير في دواة وطنية فعلية ، لأنها ببساطة تكون في هذه الحال منزوعة الإرادة ، ومنزوعة القرار ، بل وفاقدة السلطة على قسم من رعاياها . ولا يتعلق فقدان السيادة بوقوع البلاد – كلا” أو جزءا”- تحت قبضة محتل خارجي ، مما تمتنع معه الوحدة الترابية ، بل هو يتعلق أيضا” بسقوط أجزاء من التراب الوطني تحت قبضة قوى محلية متمردة على السلطة المركزية ومدعومة في ذلك من القوى الأجنبية ولا تستطيع دولة أن تلعب أي دور وطني فعلي في غياب وحدتها الترابية ))(5) . وبرغم ان دولة ما بعد الاستقلال خلعت على نفسها طابع المعاصرة الشكلية وتزينت بعلائم الحداثة المصطنعة ، إلاّ إنها من حيث الجوهر لم تلبث أن بقيت أسيرة لطبيعتها السلطانية التي ورثتها عن تاريخها المثقل بالصراعات والحروب والفتن ما بين الفرق الدينية والجماعات العنصرية ، حين كانت تميل لصالح هذا الطرف دون ذاك ودعم هذه الفئة ضد تلك ، مما استتبع أن تعاني انحسار شرعيتها السياسية وضعف مشروعيتها القانونية ، وبالتالي استفحال ظاهرة انزياح الولاء من الدولة الوطنية إلى الجماعات الفرعية . واللافت للنظر في هذا المجال ان سوسيولوجيا المدينة العربية عموما” والعراقية خصوصا”، استمرت طيلة آماد تكونها ومراحل نموها – على ضفاف البوادي القفر والمساحات الصحراوية المجدبة – تعاني هيمنة ظاهرة المد البدوي وطغيان قيم الريف وما تشيعه هذه المظاهر من انقسامات اجتماعية وتوترات طائفية واستقطابات جهوية ، أظهرت عجز تلك المدينة عن التحول إلى بوتقة حضارية تستدمج مختلف المكونات الانثروبولوجية للمجتمع ، وإخفاقها من ثم في صهرها في وحدة وطنية واضحة الهوية ومعروفة الانتماء . ولهذا فقد استمرت فاعلة ومؤثرة قيم الأثرة بالعصبيات والاستئثار بالنعرات بين تلك الجماعات الفرعية ، بصرف النظر عن تغيير الأنظمة وتوالي الحكومات . وليس ((أدل على ذلك – كما يقول المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري – من انبعاث رواسب الماضي – التي طالما تهربنا منها باعتبارها مجرد رواسب – انبعاثها عوامل فعّالة في مصيرنا السياسي ، وحياتنا السياسية اليومية من انتماءات وانحيازات قبلية وعشائرية وطائفية ومذهبية ومحلية وجهوية))(6) . وهكذا تكون المدينة بطابعها الريفي وطباعها الرعوية قد أفسدت قيم السياسة وأخلّت بأعرافها ، إذ تحولت من وسيلة حضارية لتنظيم المشترك الاجتماعي على وفق رؤية من الواقعية العقلانية والمشروعية الدستورية إلى أداة شيطانية لتفجير الخلافات وتسعير الاختلافات الموجودة بين العصبيات والمذهبيات . وحين تتريف السياسة وتحرّف تقاليدها ، تغدو مظاهر تطييف المكونات الاجتماعية مسألة واقعة وحاصل تحصيل ليس إلاّ . إذ بمجرد ما تشرع السياسة بالاعتماد على فكرة القوة بدلا” من قوة الفكرة والارتكاز على حق القوة بدلا” من قوة الحق ، لإدارة الشأن العام وتنظيم أمور المجتمع تبدأ الجماعات الأولية بالتشظي والانسلاخ صوب أصولها الأولية وثقافاتها الفرعية كرد فعل على تخلي السياسة عن وظيفتها وانحرافها عن ماهيتها . وهنا تصبح الثقافة ترف نظري لا أهمية له ويتحول المثقف إلى فائض اجتماعي لا ضرورة له . ذلك لأن مصالح القوى الفاعلة في المجتمع المتبربر لا تحتاج إلى مبررات أخلاقية أو مسوغات منطقية لكي يكتمل نصاب شرعيتها وتبلغ الشأو الذي تريده ، إذ أن وسائل من مثل الطغيان السياسي والقوة الغاشمة والقمع الفكري والترويع النفسي قمينة بتحقيق ذلك وأكثر، بصرف النظر عما إذا كانت تلك المصالح مشروعة الوسائل نبيلة الغايات أم لا ، متوافقة مع طموحات الغالبية من مكونات المجتمع أم لا . وبذا تكون الثقافة قد فشلت والمثقف قد أخفق ، تبعا” لذلك ، لا في تجسير الفجوة التي سعى إلى إقامتها الباحث المصري الأستاذ ( سعد الدين إبراهيم )(7) بين سلطة المثقف وسلطة الدولة ، وإنما بين السياسة بما هي فن الممكن الاجتماعي وبين الثقافة بما هي إبداع فكري ونتاج حضاري لأنسنة العلاقات وعقلنة الخطابات وشرعنة السلطات ومدينة المؤسسات ، من منطلق ان الثقافة (( ترياقا” مضادا” للسياسة ، فتلطّف تلك النظرة الضيقة المتعصبة من خلال سعيها وراء التوازن وابتعادها بالعقل عن التلوث بكلّ ما هو متحيّز ، أو متعصّب ، أو بعيد عن الاتزان ))(8) .
المصادر
(1) الدكتور الطاهر لبيب (( العالم والمثقف والانتلجنسي )) ، في الطاهر لبيب و ( آخرون ) ؛ الثقافة والمثقف في
الوطن العربي ، سلسلة كتب المستقبل العربي 10 ، ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2000 ) ، ط2 ص 30 .
(2) أورد ذلك المفكر تيري ايغلتون في كتابه المهم ؛ فكرة الثقافة ، ترجمة ثائر ديب ، ( دمشق ، دار الحوار ، دون تاريخ ) ، ص34 . انظر أيضا” على سبيل المقارنة ، الدكتور ميثم الجنابي ؛ العراق ورهان المستقبل ، (دمشق ، دار المدى ، 2006 ) ، ص 329 .
(3) جان بول سارتر ؛ دفاع عن المثقفين ، ترجمة جورج طرابيشي ( دار الآداب ، 1973 ) ، ص 33 و34 .
(4) تيري ايغلتون ؛ المصدر نفسه ، ص 26 .
(5) الدكتور عبد الإله بلقزيز (( دور الدولة في مواجهة النزاعات الأهلية )) ، في الدكتور عدنان السيد حسين (منسق) ؛ النزاعات الأهلية العربية العوامل الداخلية والخارجية ، ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1997 ) ، ص 75 .
(6) الدكتور محمد جابر الأنصاري ؛ التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام – مكونات الحالة المزمنة ، ( بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1999 ) ط2 ، ص 14 .
(7) الدكتور سعد الدين إبراهيم (( تجسير الفجوة بين المفكرين وصانعي القرارات في الوطن العربي )) ، المستقبل العربي ، السنة 7 ، العدد / 64 ( حزيران / يونيو 1984 )) .
(8) تيري ايغلتون ؛ المصدر نفسه ، ص 44