19 ديسمبر، 2024 12:49 ص

لعنة التقسيم وجغرافيا الطائفية

لعنة التقسيم وجغرافيا الطائفية

لم تستطع واجهات الوجبات السريعة  المعدة لتغذية منطقة الشرق الأوسط بالصراعات أن تخفي ما يستتر خلفها من مطابخ ضخمة يستعد طهاتها لتقسيم أو قل إعادة  تقسيم المنطقة لكن هذه المرة وتماشياً مع التقدم التقني بأستخدام طريقة التقسيم عن بعد مع وجود الأدوات المنفذة للأجندة الكونية الأمريكية ممثلة بدول مستفيدة من ركوب موجة النظام الدولي الجديد مع تباين ظروفها وهي المملكة العربية السعودية التي تحاول إبعاد الأنظار عن لا ديمقراطيتها وقمعها لحقوق الأقليات وتوارث السلطة وإلغاء دور المرأة  وغير ذلك من المشاكل الكبيرة والأساسية وتركيا التي تنوء بثقل التنوع الذي تتطلب إدارته مهارة فائقة تفتقدها الإدارة التركية الحالية الحالمة بأستعادة كرسي الوالي العثماني الذي فارق الحياة مع انطلاقة التغيير الإصلاحي لمؤسسة تركيا أتاتورك العلمانية وأخيرا قطر وإسرائيل  التين يجمعهما هم مشترك يمكن التعبير عنه بأنه حلم الأقزام في حكم العمالقة ويبقى السؤال الأهم هو إلى أين تسحب الولايات المتحدة الأمريكية العالم في حروبها العادلة ؟

ومن الطبيعي أن يظهر العالم خشيته من اعتماد أمريكا مرجعاً للنظر في قضايا الشعوب وذلك ليس فقط لأزدواجية معاييرها وانحيازها إلى جهة الظلم وهي تدعي العدل في ميزان تتحكم به حسب أهوائها ومصالحها ولكن أيضاً لأنها امتلكت وعلى نحو غير مسبوق قدرة الغطرسة أو كما يرى المحلل الأمريكي وليام بفاف إن العالم أصبح في وضع لا سابق له في التاريخ البشري ذلك أن امة واحدة وهي الولايات المتحدة الأمريكية باتت تتمتع بسلطان سياسي واقتصادي بلا أي منازع حتى يسعها أن تفرض نفسها أينما وجدت بصورة عملية كما يسع هذه الأمة أن تدمر القوى العسكرية لأي امة أخرى في الأرض من دون أن تلجأ إلى الأسلحة النووية ثم إن للولايات المتحدة القدرة على فرض القطيعة الاقتصادية والاجتماعية الكاملة على إي دولة أخرى وبالمحصلة الأخيرة فان هذا السلطان المطلق وهذه الحصانة القصوى ما كان لأي دولة أن تحظى يهما وبذلك نجد العالم المستضعف مدفوعاً باتجاه الانتحار نتيجة إنكار العدالة والظلم المفرط والواقع عليه من قبل القوة المشرعة للظلم التي تؤسس بشكل منهجي ومنظم لسياسة الإذلال والتجويع والأخطر من ذلك إلغاء حق الاختلاف العقائدي حيث تصدر ثقافة التفوق انحلالها وتهتكها وأمراضها مغلفة مع تقنيات الاتصالات والأجهزة المتطورة والخدمات حيث أن كتلة التصدير لا تقبل التجزئة أو السماح بالاختيار الانتقائي وليس هناك أي مجال للرفض ليبقى الخيار المتاح الوحيد هو قبول هذا التفوق المنخور وازاء ذلك تشعر الدول بحاجتها الماسة إلى الانغلاق لان معطيات التغيير سوف تدفع بقادة الصدفة الذين حكموا المنطقة بمباركة الولايات المتحدة الامريكية بعيداً عن أماكن القيادة وفي اغلب الأحيان إلى السجون لدفع فواتير مراحل الانسجام الهش مع الولايات المتحدة الأمريكية فيما يشعر أهالي تلك الدول بالحاجة إلى التخندق حول أكثر الأمور أهمية والتنازل غير المقصود عن المشاريع الكبيرة حفاظاً على هويات الانتماء الفرعية المقموعة وبذلك وبصورة قسرية سوف تختار بعض المجموعات دفاعها عن المذهب لتعيد هيكلة الانتماء في البلدان الواقعة تحت هذا التأثير فيما تتبنى مجموعات أخرى الدفاع عن حقوقها القومية واسترداد الحق الذي اغتصب بفعل التقسيم القسري للمنطقة في المرحلة السابقة وأبرزها حالة الشعب الكردي الموزع على عموم المنطقة وهذا هو ذات السيناريو الذي قدمه نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن للعراق كمقدمة تتقسم المنطقة على ضوء مايتحقق في العراق بل إن السيناريوهات المنتظرة في المنطقة أكثر تشظياً من تقسيم العراق فسوريا وتركيا وإيران تضاف إليها قائمة من الأقليات المطالبة باستقلالها والمملكة العربية السعودية  لن تكون بمنآى عن رياح التقسيم التي تنذر أنواء المنطقة بقدومها ولكن السؤال الأكثر إلحاحا والذي يجب أن تتداوله شعوب الشرق الأوسط هو إذا كانت حروب التقسيم هذه تعود بالعافية على المنطقة وتخلق امناً ورفاها فلماذا لا يتم تطبيقها في أمريكا وأوربا والدول ذات التنوع القومي والعرقي والمذهبي ؟

بل إننا على العكس من ذلك  وجدنا إن أوربا ذهبت باتجاه الاتحاد الأوربي وأحكمت الولايات المتحدة الأمريكية سلطتها الاتحادية وجعلت الفدراليات تتحرك في إطار ما تسمح به حكومة الاتحاد فلماذا إذن يجري طرح مشاريع التقسيم في المنطقة ولماذا هذه المنطقة بالتحديد ؟

وللإجابة عن هذا السؤال يجب أن نلتفت انه ليست هناك نوايا بريئة في العلاقات الدولية ويجب التفتيش عن الطرف  او الاطراف المستفيدة من مثل هذه المشاريع وهذه الأزمات المتلاحقة التي تعيشها المنطقة ولنبدأ من الولايات المتحدةالامريكية التي ارتكزت منظومتها السياسية والأمنية والعقائدية على حماية امن ومصالح إسرائيل وهي إذ تمارس سياسة التجزئة في المنطقة إنما تضفي نوعاً من الاشتراكية الجغرافية تتساوى فيها الأحجام ما بين دول الإقليم هذا فضلاً عن إن الدول الصغيرة والناشئة تكون اضمن في الحفاظ على المصالح الأمريكية واتفاقاتها الهشة بحكم حاجتها إلى دعم الدول الكبيرة وقلة خبرتها في إدارة الملفات الكبيرة جميع تلك الأمور ستكون عوامل تفوق يضاف إليها الحرفية العالية وكثرة الأوراق وتنوعها التي يتمتع بها المفاوض الأمريكي في مختلف الملفات وعلى تعدد المستويات أما من الجهة المقابلة فأن إيران تفهم تماماً ما يجري وتعمل على إفشال المخططات الرامية إلى سحب المنطقة نحو المجهول بحجة الديمقراطية التي لو طبقت فعلاً لكانت إسرائيل حليفة الولايات المتحدة الامريكيةاكبر الخاسرين فيها حينما تطبق عليها قرارات الشرعية الدولية والمعاهدات الملزمة لدول المنطقة ما عدا إسرائيل لا لشيء سوى أنها الابنة المدللة للقوة العظمى لذلك أصبحت سوريا هي ساحة المعركة الحاسمة في الصراع حيث دفعت أمريكا بكل أوراقها الإقليمية لإسقاط النظام السوري في مقابل دعم منقطع النظير من إيران لسوريا تسببت في صموده طوال تلك الفترة الطوية وأمام تحديات اكبر من تلك التي أسقطت أنظمة تونس ومصر وليبيا ذلك إن الوضع في سوريا لا يمكن مقارنته بأي وضع آخر لدولة من دول الشرق الأوسط وبالمقابل فإن لعنة التقسيم سوف تحرق بألسنة لهبها مختلف دول المنطقة حتى تلك التي تظن أنها مستفيدة من هذا الأمر فتركيا العلمانية تنتظرها تحديات التنوع على عدد من المستويات قد تبدأ هذه التحديات بتحكم جنرالات الجيش بالقرار السياسي والحفاظ على منهج أتاتورك العلماني الذي قد يفجر أزمة مع الإسلام بشكليه المعتدل والراديكالي في بلد ورث كرسي الدولة العثمانية مروراً بمشكلة الأكراد الأتراك وحرمانهم من حقوقهم السياسية من جهة وحلم إطلاق الدولة الكردية الذي يتعارض مع سياسة اردوغان وحكومته من جهة أخرى وليس انتهاء بمشاكل الأرمن وغير ذلك هذا فضلاً عن انهيار أسعار صرف الليرة التركية وما ينسحب على هذا الأمر من تداعيات اقتصادية حيث تعالج الحكومة التركية ملفاتها الداخلية الشائكة عبر تصدير الأزمات إلى الخارج والتدخل في الشأن السوري تارة والعراقي تارةً أخرى وكسب ود إسرائيل مع محاولة جر المنطقة إلى سياسة المحاور الطائفية بواسطة الاصطفاف مع المملكة العربية السعودية وقطر والإخوان المسلمين في محور الموالاة الذي يحصل على دعم وتأييد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لمواجهة محور الممانعة الذي يضم إيران وسوريا وحزب الله في لبنان وتبقى الدول الإقليمية هي أكثر المتضررين من سياسات التقسيم والتجزئة لأنها ستعيد تقسيم الدول الكبيرة في المنطقة وتحويلها الى دويلات ضعيفة متناحرة كما حصل في السودان الذي كان البداية والانطلاقة لمشروع تقسيم المنطقة وتفتيتها بالاعتماد على الوصفة السحرية التي نجمع دول المنطقة وهي غياب العدالة الاجتماعية في تلك المجتمعات حيث أتاحت العولمة الإمكانية في الحصول على تلك العدالة المفقودة اثر انهيار ما يسميه برجنسكي عن الشيوعية بالوهم الجذاب حيث فقدت مكانتها وأثبتت فشلها في تحقيق العدالة المنشودة وساعدت العولمة على نشوء الوعي الانفصالي لمختلف الشعوب في المنطقة وإمكانية تحقيق الأقليات لأحلامها في إنشاء دول مستقلة حتى ولو كانت صغيرة ومتشرذمة الأمر الذي يضعنا أمام البداية الحقيقية لنهاية الدولة القومية باتجاه الدول الطائفية وإعادة تشكيل المنطقة وفقاً لمعايير جديدة يتقدمها الانتماء إلى الطائفة أو بقية الانتماءات الفرعية وهذا الأمر له تداعيات خطيرة حيث انه سيحرم دول المنطقة من طاقة التنوع وسيفتح شهية المجاميع المتطرفة على المزيد من سياسات الانغلاق وإعلاء أسوار الاسيجة الدوغمائية كما يصفها المفكر محمد أركون لكن هذا الأمر وفي الاتجاه الآخر سيدفع بدول المنطقة إلى التخندق والدفاع عن دولها في إطار الأحلاف التي تجتمع على أساس وقف التدهور وإعطاء الأقليات المزيد من الحريات والدفع باتجاه تحسين الأداء السياسي والخدمي والدخول في عرصة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وكذلك فانه سيجمع تلك الدول على العداء لمزدوجة ( أمريكا ـ العولمة ) في إطار مواجهة ليست متكافئة لكن مع فقدان الخيارات يبقى الاضطرارالى مثل تلك الحلول أمرا ممكناً .