18 ديسمبر، 2024 6:52 م

لعبة من لعبات عبد الستار ناصر

لعبة من لعبات عبد الستار ناصر

سأكتب الليلة مكتوباً ، أوّلهُ أوشال السنة المرقمة ألف وتسعمائة وتسعة وتسعون ، ألتي شهدتْ شتويتها الباردة ، نزول عبد الستار ناصر ، على عمّان . كنتُ سبقته إليها بطفرة علوّها خمس سنين ، هاجّاً شارداً شالعاً والبلاد بظهري ، وجنطة زرقاء نصّ عمر بيميني . قبل البارحة بليلة مثلوم منها طبلة مسحّراتي ، مات الولد المشاكس الوسيم ” ستّوري ” من دون إشارة أو مقدّمة أو نغزة تُشتمّ منها رائحة موت يقين . مات الزوبعي في كندا الباردة ، وكنتُ أشتهي كتابةَ إنَّ الفتى قد مات بمنفاه الكندي ، لكنني وجدتُ أن مفردة المنفى ، قد صارت مبتذلة ودونية ، إذ خلعها كثرة من الصحب ، على أجسادهم المهدودة المهزولة ، إبتغاء بطولة لم تُقتَرَف أبداً . شخصياً ، لم أرَ ستار ليلةً يبكي أو ينتحب ، حتى في المواضع التي تحلبُ الدموع السواخن من بطن العين . من صفات الولد المفقود ، أنه لم يتورط أبداً ، في لعبة حلّ وفك طلاسم الأسئلة الضخمة . عصرية رائقة ، كنتُ أنطر ” ستّوري ” بمقهى السنترال المزروعة في صحن عمّون الوسطى . دلف ستّار وكان يحملُ بيمينه ، واحداً من كتبه ، وهي عادة لم تفارقه حتى النهاية . بعد ثلاث رشفات من فنجان القهوة ، وشفطة دخّان قوية ، فتح الولد الكتاب واستلّ من جوفهِ ، ورقة أنيقة مقصوصة من صفحة جريدة ، ولوّح بها قدّامي ، على أنها واحدة من مبهجات الليلة . كانت المقصوصة هي مرثية ساخنة كنتُ كتبتها من أجل راحة روح صديقنا كمال سبتي . كان عنوان المرثية هو ” مات كمال سبتي .. ألشعراء خائفون ” قرأ أبو عمر وناصر وياسر ، تلك المقصوصة العزيزة ، ممسرحة وملوّنة بصوته الحنين ، وكنتُ أنا منتجها ، أنصتُ خاشعاً خائفاً متضعضعاً . أخذتُ مقطوعة الجريدة منه ودسستها في حقيبتي الأزلية ، وقبل أن نفتح باب الطاولي العظيم ، مازحني ومازجني ” ستوري ” بمخيال طفولة غير مفضوض ، أن أكتب له مرثية حلوة ، مثل مرثية كمال حال موته . لم يُدخلْ عبد الستار ، كثير تبديل وتغيير على سنينه المشعة في عمّان . مقهى حسن عجمي بحيدرخانة بغداد العباسية المريضة ، صارت هنا مقهى السنترال . حانة المرايا في مفتتح الكرادة هناك ، تمَّ استبدالها بحانة الشرق وسط عمّان ، على مبعدة شمّة طيبة من فلافل هاشم . ألطاوليّون والدومينيّون والوراقون من صحبة بغداد ، صار نصفهم في عمّان ، وما تبقى منهم ، حلّوا على دمشق والقاهرة ، وأمصار أخرى كان بمقدور الفتى ستار ، أن يصل إليها ، بوساطة سيارة رخيصة من كراج العبدلي ، وجهتها دمشق ، أو طيارة ممكنة ، نزلتها بعد ساعة ، ستكون قلب القاهرة . كان عبد الستار من صنف البشر الذي يفرش لك الأرض على وسعها ، بالذهب وبالدنانير وبالسفر وبالأحلام الجسام ، من دون أن يخلّف في قلبك الرهيّف ، ندبة شكّ في أن بشارته تلك ، ليست ثيمة مقترحة لواحدة من طوال قصصه ، أو من قصارها . عبد الستار ناصر ، مثل عبد الأمير جرص ، كلاهما يشلعان قلب من يشتهي رثاءهما . عبد الأمير مثل عبد الستار ، مات بكندا ، وترك خلفه ، تأريخاً مبهجاً من الشعر العفيف ومن الضحك ، لذا فشلتُ يومها في منع نفسي من الضحك ، وأنا على عتبة السطر الثالث من مرثيته الماجدة . هذان حقّاً صديقان طيبان ضحّاكان ، لا يكلّفان قلبي إلّا وسعَهُ .
ستّوري صديقي : سأنطرُ زمناً آخر ، كي أكتب عنك مرثية حلوة ، تماماً مثل تلك التي اشتهيتها من قبل . بصراحة مبينة ، وبيني وبينك ستّوري الوردة ، أنا حتى الليلة القائمة ، لم أتيقّن من نبأ موتك . ربما كانت هذه الطقطوقة – كم كان صوتك جميلاً – واحدة من ” لعباتك القصصية ” المدهشة ، بعدها ستظهر على الناس المنذهلة الدائخة بكأسٍ عتيقة ، من مخبئك البعيد ، ضاحكاً ومنتشياً وملوّحاً للصحب أجمعين ، أن اجمعوا أيها الكادّون والكادّات ، كلَّ ما كتبتم عن غيبتي ، وصفّفوه في كتاب ثقيل سيصدر بصحّتي ، قريباً جداً .
[email protected]