23 ديسمبر، 2024 3:51 ص

أول الكلام:
لا أدري على وجه الدقة مكانة المكان في ذاكرة الإنسان، ولكن على العموم هو مهم بل جدُّ مهم؛ فإن فن التمثيل ولَعبَ المسرحيات لا يمكن أن يجرد من المسرح كبناية أو منصة “ستيج”، ولأجل هذا أبدع الأغريق ومن بعدهم الرومان في بناء المسارح سواء كانت بعَمَد أو بدون عمد أو مجرد مدرجات في الهواء الطلق! ولا أدري كم وفقت بهذا المثل، لكن أحسب أننا سندرك بعده حين نتصور الحياة هي مسرحية طال أمدها أم قصر، ومسرحها البيت أو المدرسة أو الطبيعة أو المدن التي نطرق أبوابها فتنفتح!!
أزور حيَّ مَن أُحب باستمرار، ونتمشى في دروب الحي في الصيف حيث روائح الزهور الضائعة بأريج عذب، وكذلك في الشتاء حيث الثلج وخطورته حين يُصبح جليداً مُزلقاً كالزجاج..وكنت أعجب من أسماء الشوارع التي بدت غريبة للغاية في هذا الحي، فهذا شارع الطيّار وذا شارع الجناح وآخر شارع دفّة الطائرة، وهناك شارع المدرّج وآخر شارع الأفق….الخ حتى عرفت أن الحي كان مطاراً قبل أن يتحول الى حيّ سكنيّ؛ ولكي لا ينزاح من الذاكره ويطويه النسيان عمدت البلدية الى التذكير بأنه كان مطاراً، وحسناً فعلت،، لأن أحياءنا العراقية الحديثة كلها أراضٍ زراعية خصبة، لم نقدّر قيمتها للأسف الشديد..
في هذا الحي الحديث الذي لا يتجاوز عمره ثلاثة عقود، أخذ مني زمناً لأكتشف أبعاده المكانية، وما زلت أراه حيّاً مُلغزاً كمتاهة، فهو متشابه الأركان ذوات البروج! وهو متشابه الحدائق والورود، ودوره السكنية متشابه وحتى الشرفات ..كل شيء فيه متناظر .. بل حتى مواضع الطابوق الأحمر القاتم والقرميد الأحمر القاني! وكم من مرة ضللت الطريق ضلالاً ماتعاً تنقذني فيه الأرقام.. وكأنني أمارس لعبة طفولية افتقدتها بعد توالي السنين والعقود!

***
كنت أزور المدن والأماكن الريفية فإن صادف وصولي لها ليلاً، أنام متخيلا توّاقاُ لاكتشاف المكان حتى إذا انبلج الصبح أرى كم قاربَ أو باعد المكان تصوري، وهكذا تتكرر الحالة!
حين زرت الهند أول مرّة أخذت تاكسي وبيميني عنوان فزعم السائق أن عنواني بعيد واقترح عليّ الذهاب الى فندق قريب، وهكذا أدخلني في حي موحش ليله دامسٌ قليل الأضواء كثير الكلاب النابحة وأنا أرى محلات صغيرة مكتوب عليها أوتيل فخفت أن يأخذني الى واحد منها لكنه طمأنني أن الهوتيل في الهند يطلق على المطاعم الصغيرة! وصلت فندقاً أنيقا واستلم السائق أجرته منّي و”المكافأة” من مدير “الهوتيل” أيضاً، فنمت متصوراً أن المكان بائس، وحين تنفس الصبح فوجئت بحيّ شعبيّ متعجباً أن يكون الفندق بمثل هذا الحي .. فعرفت لاحقاً أن أحياء المدن الهندية يزدحم فيها السيارات والركشو “الستوتات” والعربات والدراجات والناس والقردة – التي إن ضاق بها المكان تروح لتتسلق أعمدة الكهرباء بخفة وتسير على الأسلاك الكهربائية برشاقة وتقدم عروضاً وكأنها في سيرك – والكلاب والأبقار المقدسة والجميع في انسجام ومتعة!
بيد أنني وصلت أحد الفنادق في العاصمة النيبالية كاتمندو في ليل ظلامه معتم وأضواؤه شحيحة فنمت في أوتيل وكان الدثار وثيراً فألقيت بجسمي المتعب من طول سفر وشعرت بدفء لذيذ في جسمي المدثر لكن رأسي يكاد يتجمد من البرد وكأنني فقدت أذنيّ، وحين استيقظت وجدت الشباك مفتوحاً قليلا ويأتي منه تيار من “زفير” الهملايا الزمهرير.. كان أجمل صباح وأجمل حدائق، وأزقة تذكرني بالنجف تضفي معابدها التاريخية مشهدا جميلا جليلا، وكانت من أجمل ذكريات المكان..
قبل أيام حطت الطائرة في أحدى المطارات التركية، ورغم أن المطار والمدينة مألوفان لدينا، إلا أن السيارة سارت في طريق مظلم موحش لا ناس ولا أي كائن آخر فالتجول ممنوع بسبب الجائحة وما موجود فهو قليل جداً من مطاعم تبيع الطعام مغلفاً ولا تستقبل الزبائن! حتى وصلنا الى هدفنا، فدخلنا المكان، حدائق ومسبح وبناية في حيّ سكني عامر، دخلنا شقتنا وكانت ملائمة ونمنا عميقاً وانبلج الصبح، أمامنا قليل من بحر حجبته أبنية سكنية راقية، ولكن الصبح لم يتنفس بعد.. بل ظل ساكنا ثم بدأت الحركة تدب، مارة قليلون، وسيارات جد قليلة؛ بعد اكتشافنا للمكان خرجنا ولدينا عنوان.. سألنا أول ناس التقيناهم رجل بصحبة سيدتين، وأريناه العنوان وتناقشوا بلهجة عراقية وتعارفنا، وكانوا من ناسنا العراقيين الطيبين، اصطحبونا الى حيث نريد مشياً على الأقدام وانغمسنا بأحاديث عن الهموم العراقية وعن وطن غنيّ بخيراته فقير بعموم شعبه مضطرب لم يعرف الاستقرار.. حتى وصلنا ولم نحس في الزمان ولا المكان!!
هذه مدينة أنيقة قد لا تشبه بغداد في شكلها، ولكن الشبه كبير في روحها وغذائها وشرابها ومحاصيلها الوفيرة وناسها، فيها كثير من العراقيين.. والعراقيون حيث حلّوا يحلّ طعامهم وخبزهم وتسمع حديثهم في الشارع، فالعراقي يتكلم بصوت مسموع وكأني به يريد أن يسمع العالم صوته!
سأمضي في هذا المكان وقتاً قد يطول، ولا أعرف هل سأتكيف لهذا المكان الجميل، وهل سأحسن التخاطب بشيء من لغة أهله؟! وهل سأسعد به سعادتي في بلاد التاي التي أمضيت فيها أثنتي عشرة سنة سعيدة سريعة الانصرام ولكنها منتجة، درّست في بعض معاهدها متطوعاً؛ سكنتها وسكنت قلبي ومازال شوقي يزداد لاعجه كلما طال الفراق..
سيأتيكم الخبر في فرزات من هذا البلد إن هاجت القريحة وفاض إناؤها ، فهل سيفيض بما استدرها ذلك البلد الآسيوي الوديع طيلة اثني عشر عاما؟ سنرى!..
24ك2/ يناير2021