(ما النهاية يا اصدقائي ألا لحظة ما بين عدم وعدم)
في السرد الروائي تمثل الضمائر(( الأنا ، النحن ، والهو ، والانت )) بدائل تركيبية لا يمكن للسرد أن يستقم دون وجودها الفاعل كونها صياغات مرتبطة بحقائق الوجود الاجتماعي والنفسي ،كما أن وجودها الفعلي مرتبط اصلا للتداول ،اما من خلال صوت السارد ، أو ملفوظات صادرة عن الشخصيات ،أو افعال وسلوكات يقوم بها الفاعلون في النص كحوارات متقابلة قابلة للتصور وفق ما تفرضه العوالم الممكنة التي يبنى ضمنها النص السردي .
فاختيارنا لضمير ما أنما هو اختيار لموقف من الحقيقة المرتبطة هي الاخرى بشكل من اشكال الواقع ،ووجهات النظر، والمتخيل ، لذا هي ليست مجرد كشف عن الصوت الذي يحكي أو العين التي ترى وتفصل فقط بل هي استراتيجية رؤيويه أدبية تفرضها خبرة السارد وفق وممكنات السرد وقوانينه (معمار) اضافة الى تيمة الموضوع المراد الحكي حوله .
إن لعبة الضمائر هذه هي التي حاولت رواية (السيد العظيم ) للروائي سعد سعيد ،الصادرة عن دار ضفاف ، لسنة 2018، الاستناد إليها من اجل رسم حدود مجالها السردي وصياغة عوالمه الدلالية وخصوصيتها الفنية والموضوعية في صياغة الحدث واستحضار عوالم >الانا = الذات ، والهم = الاخر> على حد سواء وفق ما يعرف بالسرد التوليدي (الأنات ) ضمن سيرورة من التحولات ، بذلك تقدم لنا شكلا روائيا يعتمد (أنات) متجاورة ،ومتقاطعة ، ومتقابلة في حضورها السردي وانهماكها المستمر في تشكيل الواقع المعيش ،وهو ما اسهم في ايجاد تعددية صوتية وتنوعا في اللغة وفي مستويات الوعي ودرجات الانتماء ، خلق لنا عوالم ( حكائيه ) متصارعة، ومتصالحة مع بعضها البعض عبر جدلية علائقية تتشكل وتنمو وتنتشر ،ولا يمكن ذلك الا في ظل لعبة الضمائر (انات) التي تخلق وتحرك الاحداث، والافعال لتكون (قصة) مكتفية بذاتها ، فاللغة والوصف والاستعمالات الرمزية ادوات او مادة خام لا تشكل قصة بحد ذاتها دون فعل وحركة (الأنات) داخل فضاء الزمان والمكان حيث تتبلور رؤية لحقيقة ما يمكن للقارئ التعرف عليها ،وفق ما بنته الرواية من خلال لعبة الضمائر والتي بدت في اغلب تمثلاتها داخل المتن ( انات ) منكفئة على ذاتها وكأنها تعيش ما يشبه الارتداد الزمني الى الوراء دائما ،على الرغم من محاولتها الحثيثة للهروب الى الامام واحداث قطيعة معه لكنه ظل حاضرا بكل تفاصيله القديمة كانه كابوس مزعج يقلق وجودها (جمد مجدي في مكانه وهو يفكر بأن زوجته تعرف سر اسمه القديم الذي تصور أنه اختفى )ص135 . كان للعبة اسماء الشخصيات( مهيرش ،مهارش ، ترحشش ، تمه ) والاماكن (املميت ، بهلوبور، بيشبلشت) ادوار مهمة في اضفاء بعض الغرائبية على حكايات ووقائع لها دلالاتها الواقعية التي ما تزال حاضرة مهما حاول اخفائها المؤلف لما تركته من اثار نفسية وثقافية عميقه في الذاكرة الجمعية شواهدها ما تزال حاضرة على ارض الواقع .
يبدو أن عنوان رواية( السيد العظيم ) الذي يشكل عتبة أو نافذة أولى لفك شفرة الدخول إلى المتن السردي الصريح في هذا الشأن ،فهي رواية كما يعلن الغلاف عن ذلك ألا أن عنوانها يخفي بين ثناياه مجموعة من الدلالات الرمزية المصاحبة لاحداث مختلفة عن بعضها البعض من حيث الشكل الفني ومقتضيات السرد لكنها تقع ضمن سياق حدثي واحد يقود إلى أصل مولد لكل هذه الاحداث والتحولات الزمنية والاجتماعية والنفسية، أصل ظل لفترة طويلة من الزمن يشخص القيم ويمنحها مباركته وأبعادها المرئية وغير المرئية وفق قوانينه الخاصة والتي اتخذت من الانا المتعالي مركزية للوصول والاستحواذ على كل شيء ، وهو ما برر عملية التعاطي معها كمرآة عاكسة لواقع وثقافة وجذور موغلة في القدم انها صورتنا عن انفسنا (النحن ) كصورة مصابة بداء العظمة والتوحد وكره الاخر ( الهم )، وهو ما يكرر اعلانه السارد المؤلف على طول جسد الرواية والتي تبدأ من الاهداء (إلى.. المخدوعين بأوهامهم ) . تحكي الرواية على مدى (294) صفحة حكاية بطل الرواية مهيرش الشخصية الرئيسية التي استطاعت الوصول إلى اعلى درجة العظمة بعد ما جاءت من بيئة يسكنها الفقراء والجياع وكيف شاءت الظروف الى أن يتحول مهيرش الطفل الغريب الذي يسكن في قرية نائية تكاد لا تذكر ، الى مجدي خالد الطالب ثم الضابط الشجاع و رئيس الكلية العسكرية، ورئيس جمهورية ، قد لا يستغرب القارئ في دول العالم الثالث هذه المفارقات كونها باتت ضمن تفاصيل حياته المتكررة حتى باتت تشكل كل اشكال الانا/النحن المتضخمة فينا ، تؤثر في سلوكاتنا وردود افعالنا وقراراتنا المصيرية ، لذا نحن امام موضوعة ليست بجديدة كونها ما تزال حاضرة وبقوة في اللاوعي الجمعي لنا كشعوب تعشق ماضيها ،لكن يظل الهدف من إعادة انتاجها في اطار سردي ادبي/ ثقافي مرتبطا بقدرة الرواية على طرح اجوبة لأسئلة بدت مصيرية لنا ( كم يحتاج إنسان تافه من وقت ليدعي العظمة ..ثم ليصدق بأنه فعلا عظيم ؟!) وذلك للوصول إلى أحداث لحظة مصارحة نقدية للانا المتضخمة و التي تستمد عظمتها وقسوتها واستبدادها من النحن المنكفئ على ماضيه حتى بات يشكل صورتنا المترهلة والهشة ولا يتم هذا الكشف الا وفق نفس قوانين الانا المتضخمة القوة مقابل الضعف التي يقدمها لنا السارد في بداية الرواية في حوار مرة مع الكائن ص7،وومرة اخرى مع السفير الغرفولهمي جيمس في اشارة واضحة لأميركا ودورها في صناعة دكتاتوريات مصممة لمصالحها الخاصة ،(في الحقيقة هي أن ذلك الدكتاتور كان يكره الفريق أول مجدي خالد كرها عميقا .. خاصة بعد أن سرق منه الانتصار الوحيد التي حققته القوات البلهورية … لو لا أن جيمس أقنعه بأن أفضل شيء يفعله هو أن يضعه تحت ناظريه طوال الوقت ، وقد صدق المسكين ذلك فوقع الامر الرئاسي ) ص233. وهو مشهد يكشف حجم الوهم والضعف الذي تمارسه الانا لخداع النحن
. يتخذ المسار السردي للأحداث طريقة السرد عكس عقارب الساعة البيلوجية والزمنية، أي من لحظة العظمة الى لحظات العدم بطريقة الذهاب والعودة على الرغم من كون الرواية تتألف من مجموعة أحداث بدت مستقلة بذاتها بعض الشيء كونها ظلت تروى من زاوية نظر شخصية من الشخصيات لكنها سرعان ما تعود لتنتظم ضمن الجسد الثقافي للانا التي انتجت لنا نمطية السيد العظيم كشخصية تمتلك مواصفات السلطة (مهيرش ) في علاقتها مع النحن نعمة، وعادل، وذيبة،وبسمة والتي غالبا ما تكون علاقة سلبية اعلى/ادنى، فقد تخلى عن اخته نعمه التي ضحت بكل شيء من اجل حمايته ووصوله كزعيم للبلاد بل تخلى عن كل ماضيه وقاطعه ووقف ضد كل اشكال حضوره حتى عن اسمه الاول ،كما رفض دخول كوان ابن الاخ الى الكلية العسكرية ( وهو يختم نتائج الاختبارات بتوقيعه وجد أمامه الاستمارة الخاصة( بالمتقدم كوان مهروش مالديني ) شعر بفخر حين رأى النتائج المتميزة … ومع ذلك كتب على الاستمارة (غير صالح )ص167 . كذلك نجد نفس هذه العلاقة في شخصية صويلح المرافق الاول للزعيم في علاقته مع بسمة حيث يكتشف علاقتها بعشيقها عادل الشاب الجميل ليقوم بقتله لاخفاء ضعفه امام زوجته والتي تقتل على يد ابن العظمة نجاخ بعد ما كانت تمول المعارضة بالمال والسلاح للانتقام من اصويلح .
لقد حاول السارد الفعلي التغلغل في عمق الانا المتضخمة لكشف اوهامها المرضية عبر ما يعرف بسيكلوجية الشخصية ، فكانت قصة مملكة الحيوانات التي مارس فيها المؤلف لعبة الخلق التخيلي من أفضل الطرق التي تكشف حجم وقوة هذه الامراض الشخصية داخل الانا من خلال النزوع النفسي لايجاد عوالم متخيلة مستقلة بذاتها عن الواقع المعاش لا يمكن رؤيتها سوى من قبل الزعيم ،عالم تسوده العدالة والمحبة ، يستعيد من خلاله الزعيم جزء مغيب من ذاته الانسانية المغيبة الحب والصدق والثقة التي افتقدها في عالمه الحقيقي على الرغم من كونها غابة لكنها شكلت لحظة حلمية غاية في الرقة والجمال غيرت حياته كليا ليتزوج من تمه البطة وهو ما اسهم في تحول احساسه من الخوف والكره الدائم الى الاحساس بالرقة والعشق والحب لجميع من في الغابة لتكون المعادل الموضوعي عن القسوة والقمع في عالمه الحقيقي .
كل الاحداث والشخصيات التي ارتبطت بضمير المتكلم كانت تمثل لحظة لتخلص من سطوة الانا /النحن والتي يختفي وراءها ((الهو )) السارد المحيط بكل شيء أو الشخصية الرئيسية التي تتناوب على سرد حكاياتها من خلال الامتياز الذي يمنح لنفسه سعد سعيد باعتباره قطب الرحى والخالق الفعلي وبذلك تتخذ عملية التخيل طابعا مركبا فسعد سعيد شخصية تتحرك ضمن عوالم القصة التي تجري احداثها امام انظار القارئ باسماء مستعارة بوصفه شخصية مشاركة ترحشش ص294 ،أو بوصفه شخصية سارد خارجي ، كما انه المؤلف والخالق لشخصياتها كما يصرح هو في اكثر من موقع ك (على كل حال .. أنا لا أريد .. نحن نحاول .. أريد أن أنبهكم .. الخ )، ولهذا الامر أبعاد كثيرة لعل ابرزها التداخل الممكن والحاصل بين تفاصيل الحياة اليومية للمؤلف وثقلها عليه ، وبين اشكال التفكير في هذه التفاصيل وصياغة افكار حولها من خلال أليات الوصف الخارجي ،والداخلي للوقائع والاحداث ونفسيات الشخصيات وردود افعالها كوننا امام شخصيات طازجة تخضع في الكثير من جوانبها لرقابة عين السارد الوسيط الذي يتحمل عبء الاجتماعي واكراهاته لكنها في ارتباطها بالانات الاخرى تفك أسر الرائي وتمنحه فرصة لتفكيف الحقائق واعادة تركيبها من جديد ضمن الخبرة الفردية لبلورة وجهة نظر جديدة وتلك خصيصة تمثل الاستراتيجية السردية ذاتها وهي لحظة وضع (الانا/ النحن ) أمام نفسها في لحظة زمنية مضبوطة وفضاء زمني مضبوط وعليها أن تختار بين ما يدعو إلى الحسم والتحول ، أو ما يشير الى التشظي والغياب خارج لعبة الزمن ، إما أن نقبل وإما أن نرفض ليس هناك خيارا ثالثا ، فكل الذوات الساردة والفاعلة في النص تعاني الإحساس بثقل الزمن عليها على الرغم من نجاحاتها في الوصول الى مناصب مهمة لكنها ظلت مشدودة إلى لحظة اليوم والامس (خلال 73من الثانية ، خلال ثانية ) . لذا نجد إن الانا السيرية ،والانا التخيلية هنا وفي جميع الحالات تختفي وراء حقيقة تأريخيه هي الخوف من القادم وهو ما كان ينتاب مهيرش من خلال احلامه بالقتل ، كذلك ،صويلح ،وبسمة ، وعادل ، لذا ظلت هذه الانا المتضخمة في لحظة هروب دائم داخل لعبة الضمائر الانا / النحن المتضخم مقابل ،الانت/ الهم المهزوم ، لنظل امام صورة زمنية واحدة ظاهرها حيادي وفق علاقتها بالأحداث لكن مضمرها مرضي متوحش تتناسل داخلنا كل يوم بأشكال جديدة وهو ما يجعلنا نعيش في زمن ثابت متحجر أو اللاحل والجمود لنظل نرزح تحت نيران التضخم والوهم .