لايختلف اثنان على أن استهداف البعثات الدبلوماسية الأجنبية في العراق أمر خاطيء ويطلق رسائل سلبية عديدة، لعل من بينها انعدام الأمن في البلاد، وعجز الحكومة عن توفير الحد المعقول والمقبول من الحماية للمؤسسات المحلية أو الأجنبية، ناهيك عن المواطن العادي.
وحينما تتعرض بعثات دبلوماسية أجنبية لاعتداءات متكررة خلال فترات زمنية قصيرة، دون تشخيص وتحديد الجهات المتورطة, فهذا يؤشر إلى خلل كبير وفاضح في الاداء الأمني تتحملة بالدرجة الاساس السلطة التنفيذية متمثلة بالقائد العام للقوات المسلحة والمفاصل الأمنية والاستخباراتية الخاضعة لاشرافه العام.
وتأخذ الامور أبعادا أخرى حينما توجه اصابع الاتهام ضمنا أو صراحة الى الحشد الشعبي, وهذه بلا شك اتهامات خطيرة يراد من ورائها خلط الاوراق، ومن غير المستبعد أن تكون الجهات التي توجه مثل تلك الاتهامات وتحاول تسويقها عبر منابر سياسية وإعلامية مختلفة، هي ذاتها التي تقف وراء استهداف وقصف البعثات الدبلوماسية، والا هل يعقل أن تقدم مؤسسة أمنية تخضع للسياقات الرسمية على خطوات من هذا القبيل؟.. وما الفائدة الحقيقية التي يمكن أن تتحقق من وراء ذلك؟..هذا ما تحدثت به العديد من الشخصيات السياسية، في ذات الوقت الذي حذرت فيه من خطورة هذه السيناريوهات ودعت إلجهات المسؤولة الى الكشف عن كل الخفايا والاسرار والحقائق.
أن تتبع خيوط عمليات قصف البعثات الدبلوماسية من شأنه أن يساهم في إماطة اللثام عمن يقف وراء ارباك الأوضاع الأمنية ويسعي لاعادة البلاد إلى المربع الأول.
ويبدو ان قراءة تفاعلات المشهد الامني والسياسي الراهن في العراق لاتكتمل من خلال تحليل خلفيات واسباب ودوافع ومعطيات وتداعيات لعبة الصواريخ التي تطلق بين الفينة والاخرى، دون التوقف عند احداث ووقائع اخرى، والبحث عن نقاط الترابط ومحطات الالتقاء فيما بينها.
الحديث عن “لعبة” الصواريخ الموجهة الى البعثات الاجنبية والمطارات والقواعد العسكرية، في بغداد واربيل وصلاح الدين، لاينبغي ان يفضي الى اهمال حقيقة وماهية الخروقات الداعشية المتكررة خلال الاسابيع او الشهور القلائل الماضية في اكثر من محور، واغلبها استهدفت قوات الحشد الشعبي وتسببت بأستشهاد العشرات، بينهم قادة ميدانيين، علما ان التنسيق بين المؤسسات والاجهزة الامنية والعسكرية العراقية ينبغي ان يكون بمستوى عال، فضلا عن التنسيق والتواصل بين تلك المؤسسات والاجهزة من جانب، وقوات التحالف الدولي المتواجدة على الارض وفي السماء.
الى جانب ذلك، فأن معظم المناطق التي شهدت خروقات لعصابات داعش الاجرامية، كانت قبل عدة اعوام خاضعة لسيطرة تلك العصابات بصورة شبه كاملة، ان لم تكن كاملة، ناهيك عن وجود العديد من الحواضن لها من البيئة الاجتماعية هناك، وهو ما اتاح لداعش الذي انهزم في الميدان، ان يعيد تنظيم جزء من صفوفه بصيغة الخلايا النائمة، ولعل العملية النوعية الاخيرة في منطقة الطارمية شمال العاصمة بغداد، اشرت بوضوح الى ذلك الامر، وجاءت في الوقت المناسب، لانها بحسب ما اكد قادة امنيون، ساهمت بأحباط مخطط كبير لاستهداف مناطق في العاصمة بعمليات ارهابية بواسطة سيارات مفخخة وانغماسيين، دون اغفال دلالات التفجيرات الارهابية الانتحارية التي وقعت في ساحة الطيران وسط بغداد في الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني-يناير الماضي، بعد هدوء وتوقف لمثل تلك العمليات دام حوالي عامين.
نقطة الوصل والالتقاء بين الهجمات الصاروخية على البعثات الدبلوماسية الاجنبية وبعض المواقع الاخرى، وخروقات داعش الامنية، تتمثل في توفير وتهيئة الارضيات المطلوبة لاطلاق الدعوات من داخل العراق وخارجه لابقاء القوات الاميركية-الاجنبية على ارض البلاد تحت ذريعة عدم استقرار الاوضاع الامنية وبقاء التهديدات.
فهناك اليوم في بغداد، كما هو الحال في واشنطن وعواصم اخرى من يسوق ويروج لبقاء-بل لزيادة القوات الاميركية والاجنبية في العراق-تحت ذريعة “أن مسلحي داعش مازالوا موجودين في أطراف المدن والقرى والمناطق النائية، وهذا ما يضع الكثير من العراقيل أمام وصول القوات العراقية إلى تلك المناطق الخطرة ومكافحة تلك العناصر التي تختبىء في الصحراء الواسعة والكهوف والجبال”.
وعلى ضوء هذه الرؤية المرتبكة، يذهب من يتبنونها الى “ان القوات العراقية متفقة على بقاء القوات الأمريكية وربما زيادة عددها أكثر من السابق، بعد أن أقدم ترامب على إغلاق مراكز التدريب والقواعد العسكرية وأبقى فقط على قاعدتين في أربيل شمال العراق، وقاعدة عين الأسد غرب محافظة الأنبار”.
وهذا ما يتناقض تماما مع ثوابت المرجعية الدينية ومطاليب الحراك الجماهيري السلمي، ومزاج الشارع العراقي على وجه العموم، وكذلك يتقاطع مع قرار مجلس النواب الصادر في الخامس من شهر كانون الثاني-يناير من العام الماضي 2020، القاضي بألزام الحكومة بأخراج القوات الاجنبية من البلاد.
وبما ان الاجواء والظروف السياسية والشعبية غير مهيأة لفكرة بقاء القوات الاميركية، ناهيك عن زيادة اعدادها، فلابد لواشنطن ومن معها، البحث عن بديل مناسب، يضمن بقاء الامور على حالها من حيث الجوهر، في ذات الوقت الذي يؤدي الى تخفيف ردود الافعال والمواقف الرافضة، ومن هنا جاء سيناريو زيادة اعداد قوات حلف شمال الاطلسي(الناتو) العاملة في العراق، علما ان الفكرة ليست جديدة، ولكن لم تتبلور الظروف المناسبة ولا الضرورات الملحة لترجمتها على ارض الواقع.
ويشير استاذ العلوم السياسية والسفير السابق قيس النوري، الى انه “في ظل ثبات المصالح والأهداف الاستراتيجية للبيت الأبيض، سوف تبقي واشنطن على هدف الإمساك بالعراق، والإبقاء عليه خارج التأثير في بيئته الإقليمية، كأحد الأهداف الاستراتيجية لأمريكا وإسرائيل، وستخضع عملية تقييم إبقاء القوات الأمريكية من عدمه في العراق وفق هذا الهدف والمعيار الاستراتيجي لدى واشنطن”.
ونقطة الوصل والربط الثالثة مع “لعبة” القصف الصاروخي وخروقات داعش، هي الدعوة او الاعلان عن التوجه الى زيادة اعداد قوات الناتو التي غالبا ما يتردد بأن “مهامها تدريبية وليست قتالية”!، ويتردد كذلك بـ”أن الوضع الأمني يتطلب أن تكون هناك مساعدة ليس فقط من الولايات المتحدة الاميركية، بل مع الدول المتطورة أيضا في حلف الناتو للقضاء على الإرهاب الحقيقي الذي تعاني منه أيضا دول الجوار وليس العراق بمفرده”.
وهذا التسويق، قوبل برفض عراقي قاطع، لم يكن اقل مستوى ووضوحا من رفض بقاء القوات الاميركية والاصرار على اخراجها من البلاد بأسرع وقت.
ولان هناك استحقاقات سياسية مختلفة قادمة، ابرزها الانتخابات البرلمانية المبكرة، فيما لو اجريت بالموعد المحدد لها في العاشر من شهر تشرين الاول-اكتوبر المقبل، الى جانب التحديات الاقتصادية والصحية المقلقة، فأن الضغوطات الخارجية معززة بمشاكسات ومشاغبات داخلية ستتواصل من اجل توجيه الامور بالمسارات التي ترغب بها وتخطط لها واشنطن وحلفائها، بصرف النظر عن غياب ترامب وحضور بايدن!.