تلعب المصالح الافتصادية دورا هاماً ومحورياً في رسم المسار السياسي للبلدان ،بالاخص القوى الدولية الكبرى والتي يعد دورها اساسياً ،في لعبة النفوذ وضمان التفوق على المنافسين واللاعبين الدوليين المؤثرين ،والحال ينطبق على الولايات المتحدة الاميركية القطب الاكثر تأثيراً ،في رسم جزء كبير من مسار الاحداث والتي تحاول ايجاد المبررات لتأكيد هذه الحالة والدفع بأتجاه السيطرة المطلقة على مقدرات البلدان ،ومصادرة قرارها السياسي عبر اللعب بالورقة الاقتصادية ، فبين نظام للعقوبات واخر للحصارات الاقتصادية ،وانظمة تقييد واوراق ضغط داخلية على بلدان بعينها ،تنسق مخابراتها ومؤسساتها عملياتها لتحقيق الغرض ،وخدمة هذا الهدف غير المشروع اخلاقيا .
في الحالة العراقية يرتبط ملف المال العراقي بأميركا فمبيعات النفط عماد الاقتصاد العراقي بطبيعته ،تودع وبموجب قرار مجلس الأمن الدولي بالرقم 1483 والصادر في شهر ايار العام 2003 وبموجبه تودع إيرادات وزارة المالية من النفط الخام والغاز والمشتقات المصدرة والأموال الأخرى في البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، ضمن حساب ،ممسوك من البنك المركزي العراقي ،نيابة عن الدولة لاستقطاع تعويضات حرب الكويت ،التي انتهت قبل أكثر من عام ، وعندما تبتاع المالية الدينار العراقي لتمويل الموازنة العامة تحول المبالغ من هذا البنك لعدد من الحسابات التي تنتهي بالبنك المركزي العراقي ،بالنتيجة فإن حماية الأمم المتحدة سابقاً وحماية الولايات المتحدة لأموال العراق بموجب أمر رئاسي اميركي استنفذ اغراضه بحسب خبراء ومصرفيين ، وللتعريف بوزارة الخزانة الاميركية المسيطرة على الاموال العراقية ، “فهي حسب القوانين الاميركية تتسع واجباتها ومهامها التي تتلخص ،بالحفاظ على الاقتصاد وتعزيز الظروف المناسبة للنمو الاقتصادي والاستقرار سواء داخل اميركا أو خارجها، وهو ما يعني حماية النظام الاقتصادي والشؤون المالية للحكومة الأمريكية ومواردها من التهديدات المحيطة؛ إذ تعد الوزارة هي الكيان المسؤول عن حماية الأنظمة الاقتصادية والمالية الأمريكية، كما أن لها دورًا فعالًا باعتبارها شريكًا مؤثرًا في الاقتصاد العالمي ” ،وهو ما يكشف بجلاء عن التأسيس الاميركي لجعل الاقتصاد العراقي مرتهناً بالمؤسسات الاميركية ،ليس اليوم بل منذ اسقاط نظام صدام ،وللخلاص من ذلك فالامر يتطلب جهدا كبيرا وعملا دبلوماسيا وتفاوضيا شاقا ،يمكن العراقيين في النهاية من التحرر اقتصاديا ،لضمان قرار سياسي مستقل فاعل ينهي الوصاية الدولية بهيمنتها الاميركية الواضحة على الاقتصاد العراقي .
أن القرار الامريكي الذي صدر عن وزارة الخزانة الاميركية بحضر واستبعاد 14 مصرفا عراقيا من التعامل بالدولار ،لن يكون النهاية لهذا السلوك الذي وصفه الكثيرين بالمستفز ،وقد يؤدي اتساع نطاق الحظر على مزيد من المصارف العراقية إلى إلحاق ضرر كبير بالاقتصاد العراقي وسمعته في المحافل الدولية، خصوصاً أن الحكومة قد وضعت برنامجا حكوميا طموحا ،تسعى من خلاله إلى إنشاء مشاريع عملاقة في مجال البنى التحتية والطاقة، مما يستوجب جذب الاستثمارات وزيادة الثقة بالاقتصاد العراقي ومؤسساته المالية ، فالاجراءات العقابية الاميركية هذه وان ادعت وجود خروقات وشبهات تتعلق بعمليات التهرب، وعدم وجود بيانات تقود لوجهة الاموال النهائية ،الا انها لم تكن ادانة صريحة تستند لأدلة ثابتة بل لخلل اداري ربما ، وتقضي الية الرقابة الاميركية بألزامية استخدام منصة إلكترونية جديدة مرتبطة بالبنك المركزي العراقي من أجل تقديم طلب الحصول على الدولار، وبعدها يتم مراجعة الطلب من قبل البنك الاحتياطي الفيدرالي للبت فيه.
ويتذرع المسؤولون الأميركيون بحجة أن هذا النظام ،يهدف إلى الحد من استخدام النظام المصرفي العراقي لتهريب الدولار ، إلى بلدان مشمولة بالعقوبات وملاذات غسيل الأموال في جميع أنحاء الشرق الأوسط ،فيما تنص القواعد القديمة على عدم الزام المصارف العراقية بالإفصاح عن تفاصيل الجهة التي يتم إرسال الأموال إليها إلا بعد أن تتم عملية التحويل ، وهو امر لم تبلغ به هذه المصارف ولم يطلب منها ذلك قبل اصدار اعمام بها وضعها في قائمة الحظر ،مما يشير الى ان هذه الاجراءات استخدمت كورقة ضغط سياسي ،لاحداث هزة اقتصادية وارباك للحكومة والنظام المصرفي العراقي ، ويمكن اعتبار هذه الذريعة ومبرراتها ،التي أسهمت سياسات واشنطن في احداثها ،افضت لأن تتراجع قيمة العملة العراقية أمام الدولار لتنخفض بما يصل إلى 10 في المئة منذ الشروع بتلك الإجراءات ،ما اشعر الحكومة العراقية بالقلق إزاء فرضها ضوابط طويلة الأمد على التعاملات بالدولار ، فيما ترى دوائر اميركية بأنه مصمم لوقف تدفق الأموال إلى وجهات تنتهي بوصولها لبلدان تشملها العقوبات الاميركية ، وبغض النظر عن صدقية هذا المدعى و مطابقته للواقع الذي يقول بعد التدقيق غير ذلك ، الا ان ارتدادته السلبية على السوق العراقية باتت واضحة ،فالاجراءات وما رافقها من ارتفاع في أسعار المواد الغذائية والسلع المستوردة ،يشير لهذه الحقيقة ويضع عامة الشعب العراقي في خانة العقوبة ايضا ، كما ان تغيير سياسة المؤسسات المصرفية الأمريكية تجاه العراق ، اضر بالمواطن العراقي ، وهو ما تريده اميركا لتحقيق غايات سياسية ،لاجبار الحكومة على الانصياع لرغباتها دون ادنى نقاش .
على الجانب الاخر، ينبغي على الحكومة ان تطور الاداء المصرفي وتحصن هذا القطاع بجعله اكثر مرونة وقوة ، ولتحقيق هذه الغاية فيجب الشروع بمراجعة شاملة ، تقود لترصين التعاملات والخدمات المصرفية المقدمة والتي لازالت محدودة ،مع ما يفترض أن تقدمه للاقتصاد الوطني فضلا عن القطاع الخاص ،و بالشكل الذي يسهم في تنمية الاقتصاد وإنجاز المشاريع ،بأيجاد التمويلات الكافية والسيولة اللازمة للاستثمار محليا في مشاريع البنى التحتية ،والتي تضمن المردود مقابل تقديم خدمة عالية الجودة ،وهو ما لم يعمل به حتى الان ،فمكافحة الفساد والكسل يتطلب بذل جهد اكبر ،وهذا نقد موضوعي يجب قبوله من قبل الجهات المعنية بهذا القطاع الحيوي الهام ،وتحمل غاياته التي نبررها ،بالحرص على مستقبل بلادنا ونهضتها على مختلف الاصعدة والمجالات ،فالمصارف العراقية الخاصة منها على وجه التحديد ، ما تزال تفتقد الخبرة كونها مؤسسات اقتصادية مالية بطبيعتها ، و ليست مكاتب مناطقية لتحويل الأموال والتربح من نافذة بيع العملة والمتاجرة بها ،والواقع المشار اليه من ارتباط ملف الاموال العراقية بالخارج ،يحتم السعي لايجاد حلول مستدامة تبدأ من المراجعة وتنتهي بالترصين ،لتفادي المزيد من الهزات التي سيتحمل تبعاتها الوطن والمواطنين ، سيما تلك الطبقات الاكثر فقرا وحاجة ،والتي لاشأن لها بما يدور خلف الكواليس من تنازع ارادات ،وحروب اقتصادية ذات ابعاد سياسية ونزاعات سيطرة ونفوذ ،تتم على حساب الشعب العراقي غير ملتفتة لمعاناته وأمنه ومقدراته ..