أجريت الأنتخابات البرلمانية العراقية في العاشر من اكتوبر الماضي وقد افرزت نتائجها غير المصادقة عليها لحد اللحظة من قبل المحكمة العليا الأتحادية, خسارة للقوى الموالية في معظمها لأيران الى جانب قوى اخرى انتهازية في اخفاء اعلان ولائها لأيران او لجهات اقليمية, وتلك القوى الخاسرة هي التي تمتلك الأذرع المسلحة والميليشيات والممثلة في كل البرلمانات العراقية السابقة ما بعد 2003 وانتهاء بالبرلمان الأخير الذي ترأسه محمد الحلبوسي, لم تكن تلك الخسارة مطلقة بل هي خسارة نسبية قياسا بما حصلت عليه في الانتخابات البرلمانية السابقة, بل يمكن القول انها فازت ولكن ليست كما تشتهي لأجندتها فأعتبرته خسارة وتصرفت على هذا الأساس برفضها لنتائج الأنتخابات واللجوء الى القضاء العراقي واطلاق المظاهرات المسيسة بأتجاه الضغط المتواصل لأحداث نوع من التغير في نتائج الانتخابات لمصلحتها وبما ينسجم مع اجندتها في الأستمرار في الأمساك بزمام الحكم إن كانت خاسرة أم رابحة.
ففي الوقت الذي لم تعترض تلك القوى على نتائج الأنتخابات السابقة المزورة والمحروقة الصناديق لأنها كانت تصب في مصلحتها وتفضي الى بقائها مهيمنة على المشهد السياسي, نجدها اليوم ترفض وتعبئ كل طاقاتها وقدراتها الديماغوجية والعبثية لقلب نتائج الأنتخابات والعودة الى نقطة الصفر بل وتهدد السلم الأهلي والمجتمعي عبر تلويحها الضمني بأستخدام السلاح عبر تحريض مجاميعها المسلحة لعرقلة الحياة العامة واللجوء الى استعراض العضلات المسلحة متجاوزة في ذلك على صوت الناخب العراقي وعدم احترام ارادته.
مع سلوك تلك القوى السياسية ـ المسلحة والرافضة لمبدأ التدوال السلمي للسلطة عبر نتائج صناديق الأقتراع تأكد أن النظام السياسي في العراق ومنذ عام 2003 هو نظام دائرة مغلق لا يقبل التجديد والتحديث في القوى الفاعلة فيه استنادا الى الأرادة الشعبية, بل ان النظام يعيد انتاج الازمات السياسية الواحدة تلوى الأخرى عبر اعادة انتاج نفس القوى التقليدية فيه الغير مؤمنة عقائديا وسلوكيا بالديمقراطية والتدوال السلمي للسلطة, ومن هنا فأن كل الأزمات السياسية والأقتصادية والأجتماعية ناتجة من عدم القدرة على اختراق تلك الدائرة التي تهيمن عليها القوى التقليدية والرافضة للتغير والتجديد في الحياة المجتمعية, بل ان قوى تلك الدائرة المغلقة هي من لا يحترم الزمن واهميته في عمليات التغير والتقدم الاجتماعي, وهي من يفسد في المال العام ويسرق ثروات الشعب ويسرق مستقبله, ولن يتوانى على اضفاء القدسية على افعاله لزرع الخوف والرعب في قلوب الأبرياء وحرمانهم من ابسط مقومات الحياة الانسانية المتمثلة في الخدمات الانسانية الاساسية, من صحة وكهربا وتعليم وتوفير فرص كريمة للعيش ومعالجة الفقر والبطالة ووضع حد للتدهور الاجتماعي والقيمي في حياة الناس, ولا نستغرب ان يكون هذا النظام الدائري مقطوع الصلة الدينامية مع محيطه الداخلي والخارجي.
يعرف الجميع ان تلك القوى غير مؤمنة بالديمقراطية فكرا وممارسة وهذا ما ابتلى به المشهد السياسي العراقي بعد 2003 ودفع ثمنه حروبا اهلية وطائفية وتصفيات جسدية وعرقية ومناطقية وتمثلت في ابرز مظاهرها في الاغتيالات العشوائية والمنظمة للكفاءات العلمية والادارية والعسكرية وتخريب مؤسسات الدولة وافراغها من محتواها المهني عبر اقحامها بالطائفية البغيضة لأضعافها المتواصل في خدمة اجندتها الداخلية والخارجية الكارهة للدولة ومؤسساتها عبر تقوية قوى اللادولة المنفلتة كبديل للدولة ووظائفها الاساسية في حفظ الأمن والنظام وضمان تطبيق القانون والحفاظ على ارواح المواطنين وتعزيز الهوية الوطنية.
النظام السياسي الدائري المغلق في العراق بطبيعته العدائية لأرادة الشعب وطموحاته ينتج المزيد من حالات الاغتراب الشديد بينه وبين الشعب ويزيد من فائض الأحباط التراكمي عبر عدم الاذعان لمطالب الناس المشروعة في العيش الكريم والحرية واحترام الرأي, وبالتالي فأن فائض الأحباط لدى شعبنا ينذر بمزيدا من الغضب المشروع قد يتجاوز حدود انتفاضة اكتوبر للعام 2019 وقد يهدد منظومة الحكم بأكملها, ونتذكر جيدا شهدا انتفاضة اكتوبر التي قدم فيها العراقيون اكثر من 700 شهيدا و30 ألف جريحا وفيهم بأعاقات مستديمة, والتي كان من نتائجها اسقاط رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي وتبعته العديد من التشريعات والقوانين الخاصة باجراء الانتخابات المبكرة واعادة النظر بقانون الانتخابات وغيرها رغم ان العديد من تلك الاجراءات كانت مبتورة وغير ناضجة لأنها صادرة من برلمان محصصاتي ويطال الشك الى شرعيته والانتخابات التي جاءت به.
لكل متابع للمشهد السياسي العراقي وللقوى الطائفية والاثنية المكونة له ومنذ عام 2003 تلجأ تلك القوى المهيمنة الى التحايل على الديمقراطية وحرف مسارها عبر شعارات ومسميات فضفاضة تخفي ورائها حقيقة السلوك التخريبي للعراق وقدراته الاقتصادية والمالية والبشرية, فمن شعارات ” المظلومية الطائفية ” الى “المظلومية الأثنية ” الى ” دولة الشراكة ” و “حقوق المكونات ” الى ” معالجة “الأنسداد السياسي ” عبر تسويات مع القوى الخاسرة وشعارات الحفاظ ” على الوطن ومنع تدهوره ” عبر تحويل “الخاسر في الانتخابات الى رابح” وبكتلة أكبر, أو اختزال النظام الديمقراطي والدولة والمجتمع بصورة عامة ببيوتات تقليدية: ” البيت الشيعي ” والبيت السني” والبيت الكردي” وكأن هذه البيوت كتل صماء وذات توجه فكري واجتماعي وثقاقي واحد وبعيدة عن التنوع, في محاولة لألغاء سنة الصراع في داخل البيت الواحد بهدف السيطرة عليه, انها لغة عقيمة ورديئة يفهمها شعبنا وقد جسد رفضه لها في كل احتجاجاته.
لقد فضحت انتخابات 10ـ10ـ2021 البرلمانية العراقية المبكرة زيف القوى الأسلاموية وهي تستخدم في الخفاء سلوكيات ” التقية ” المعروفة لديها في عدم الأفصاح عن اهدافها وسلوكياتها الحقيقية, فبدلا من ان تقول علنا انها لا تؤمن في الديمقراطية لأنها نموذج غربي وبدعة ” وكل بدعة حرام ” بالنسبة لها ولكنها تنادي بالانتخابات لأخفاء عدم رضاها بشرط ان تكون النتيجة كما تشتهي هي, وإلا فالسلاح والتهديد حاضر لقلب المشهد السياسي حتى بأراقة الدماء. لقد اكد رفض نتائج الانتخابات من قبل قوى الأسلام السياسي وعدم القبول بنتائج صناديق الأقتراع أن هذه القوى تمارس سلوك المتحايل للأبقاء على نفوذها في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية واعادة انتاج نفسها وكأنها البديل الوحيد للكم في العراق, فاذا جاءت نتائج صناديق الأقتراع مطابقة لرغبات بقائهم في نزيهة اما عكس ذلك فالأنتخابات مزورة حتى وان اكتسبت شرعية محلية وعالمية فلا تعني لهم شيئ, وتشتغل القوى الخاسرة على تشتيت شمل الفائزين الأوائل عبر البحث عن كتلة أكبر بديلة لواقع نتائج الانتخابات وتعمل على قاعدة” عين على المحكمة العليا الاتحادية وعين على الكتلة الأكبر ” مستخدمة لغة التصعيد والتحشيد والتلويح بأستخدام القوة عند الضرورة.
سلوكيات الأسلام السياسي في التشبث في السلطة والدولة والمجتمع ليست جديدة في تجارب الاسلام السياسي في البلدان العربية وفي العراق فهي تستند الى شرعيات غير مقبولة اليوم في عالم لا يرضى إلا بالديمقراطية فحتى الانظمة الدكتاتورية في العالم لا تتجرئ في الاعلان عن طبيعتها وتبحث عن غطاء ديمقراطي او إدعاء للديمقراطية, وان قوى الاسلام السياسي تعتبر نفسها اختيار إلهيا وتستمد شرعيتها من السماء, ولا تؤمن بالتدوال السلمي للسلطة لأنها تعتبر نفسها قدرا نهائيا, وعدم الايمان بحق الأختلاف وان مخالفتها يستوجب عقاب الآخر المختلف, ولا تؤمن بالمساواة على اساس المواطنة فهي تفضل المؤمن بدينه ومذهبه, انها لا تؤمن بالحريات فهي تفرض نظاما صارما من الوصايا والتدخل في الشأن العام والخاص للأفراد, ولاتؤمن بدولة القانون لأن القانون بالنسبة لها ما نزل من السماء, وتعتبر الدين وسيلة للسياسة للسيطرة على الناس وشرعنة ما يقع على الناس من ظلم وبالتالي استخدام السلاح لفرض شرعية سياسية من نوع تعسفي خاص بعيدا عن ارادة الشعب. ولعل في فكر حركة الأخوان المسلمين التي تأسست عام 1928 تلك الحركة التي نظر لها وأسسها حسن البنا ( 1906ـ1949 ) وقد تأثرت بها لاحقا العديد من حركات الأسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني وتفرعاتهما المتشعبة, فقد أكد حسن البنا وعزز اطروحة ان اركان الدين ليست خمسة ” صوم, صلاة, زكاة, الحج وان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ” بل اضاف ركنا سادسا هو الحكم واستلام السلطة وتكفير الأنظمة الحاكمة, وكان العنف والارهاب والأكراه احد المصادر الاساسية لفرض البدائل على الارض, ورغم ان ظروف العصر الضاغطة صوب التعددية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة قد اخفى الكثير من الاهداف المعلنة لتلك الحركات, ولكنها لجأت الى استخدام صناديق الأقتراع ليست كوسيلة ديمقراطية بل كلعبة للأنقضاض على السلطة وتكثيف استخدام الخطابات التجيشية ” لخلط المقدس في المدنس ” التي تعزف على الأنفعالات وخاصة في مجتمعات فقدت الأمل من الانظمة القمعية االحاكمة في نهضة تنموية اقتصادية واجتماعية شاملة ترتقي بعقول الناس وتجنبهم مخاطر الفقر وتداعياته النفسية والفكرية بما فيها الأختيار في الانتخابات, ومن هنا دخل الاسلام السياسي على خط اللعبة الدبمقراطية لأفراغها من محتواها.
نموذج الأسلام السياسي في العراق بعد 18 عشر عاما من تجربة الأستحواذ على السلطة عبر ” صناديق الأقتراع السوداء ” أفرغ الديمقراطية التوافقية من محتواها كتجربة ممكنة شريطة القناعة بها كأفكار ووعي بعيدا عن المذهبية والطائفية والتعصب القومي والأثني وكما شرحها في كتابه الكاتب ارنب ليبهارت والمعنون ” الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد “, حيث تحولت في العراق تلك التوافقية الى هدم للهوية الوطنية في ظل حضور العشائرية والقبلية والتشرذم الأثني والقومي وغياب قانون احزاب الى بديل تجسد في اقبح صوره بعرف المحاصصة الأثنية والطائفية والنعرة القومية المتطرفة, وكان نتاجها هو تأسيس كيان كارتوني يصم شكليا في التوافقات المريضة وينهار امام الأعين عندما يتعرض الى أي اختبار وجود في الداخل او الخارج, وقد تجسد ذلك في اقبح صور العناد التخريبي لأدارة الدولة وابرزها هو تحاصص الرئاسات الثلاث: رئيس الوزراء شيعي, ورئيس الجمهورية كردي, ورئيس البرلمان سني وجميعها خالية الذكر في الدستور العراقي, منح المكون السني وزارة الدفاع, والمكون الشيعي وزارة الداخلية, توزيع الوزارات السيادية (الدفاع والداخلية والخارجية والنفط والمالية) بحيث تكون ثلاثة للشيعة وواحدة للسنة وأخرى للكرد, وصلت المحاصصة إلى الجهاز القضائي حيث تم تشكيل مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية بحيث تضم المكونات والطوائف. ناهيك عن قادة الجيش والشرطة والمؤسسات الأمنية, وهكذا وصولا الى الدرجات الوظيفية الدنيا, هذه المحاصصة الطائفية والحزبية أوجدت حالة شاذة تتمثل في جعل الشخص غير المناسب في المناصب والمواقع الحكومية. وتسنم وزراء ووكلاء ومدراء عامون مناصبهم وهم بعيدون عن اختصاصاتها أو يفتقدون لخبرة أولية أو شهادة جامعية حتى أصبح كثيرون من الوزراء ورؤساء الهيئات وغيرهم يشغلون مناصب يجهلون أولياتها ومفرداتها، ناهيك أن يُطلب منهم تطوير الوزارة أو معالجة مشكلاتها, انها حالة شاذة ارتضاها نظام المحاصصة الطائفية والأثنية لهدم الدولة ومقومات نهوضها على أسس عصرية.
فلا نستغرب ان يماطل الأسلام السياسي وفي مقدمته الأطار التنسيقي في العبث بنتائج الانتخابات ومحاولات تغيرها عبر الضغط على القضاء العراقي واستخدام شارعه المسلح لترهيب اجهزة الدولة لفرض اجندته المتمثلة في ابقاء الاوضاع السائدة كما هي ومنع اي بارقة أمل في اعادة الأصطفافات السياسية لصالح قوى الدولة والحراك الاجتماعي المتمثل بقوى تشرين وغيرها الطموحة الى احداث تغير ما ايجابي في المشهد السياسي صوب التأسيس لدولة المواطنة وبدأ خطوة الألف ميل, وبالتأكيد ليست مهمة سهلة في واقع العراق حيث القوى الأخرى خارج القوى الأسلامية هي قوى ليست واضحة المعالم بل وتتأرجح صوب مصالحها القومية والأثنية الضيقة وتنتظر من يدفع لها اكثر لملئ فارغ طموحاتها النرجسية المريضة, وقد تخسر تلك القوى طموحات شعبها في الحصول على الحقوق القومية المشروعة العادلة وعليها ان تختار حلفاء موثوق بهم وليست حلفاء اللحظة والمغانم. السلام للعراق وشعبه ومكوناته بكل اطيافه على اسس من الحق والعدل والكرامة بعيدا عن مكاسب اللحظات العابرة !!!.