تتكاثر التساؤلات عن إدارة ازمة الحكم في العراق منذ عام 2003، تتمثل ابرز معالمها في تدحرج كرة الثلج بالهروب نحو الامام، دون حلول نهائية حاكمة، فانتهت السياسات العامة للدولة الى تضارب مصالح حزبية خلقت نموذجا فريدا من نوعه في تفسير نموذج الديمقراطية التوافقية، عرف بـ(مفاسد المحاصصة) …. هذا الكلام سبق وان طرح منذ أعوام مع بداية كتابة الدستور العراقي، ربما في هذا العمود او على وسائل إعلامية أخرى، ماذا كانت النتيجة ؟؟
الجواب الوحيد ان ثمن التغير نحو الحرية الاجتماعية والعدالة الانتقالية بحاجة الى هذا الطراز من التفاهمات الحزبية التي طبقت اتفاق لندن بين أحزاب المعارضة بموافقة أمريكية على ما يوصف اليوم من البعض بالنفوذ الإيراني من خلال أحزاب عراقية معروفة، وكان الدكتور احمد الجلبي عراب هذا الاتفاق حينما فتح مكتب المؤتمر الوطني العراقي الممول من قانون تحرير العراق الذي اقره الكونغرس الأمريكي في طهران بموافقة السيد الخامنئي !!
وكانت الانتباهة الأولى لهذا المشروع الذي يستهدف العراق في خطب واحاديث المرجعية الدينية العليا لاسيما مع سيرجيو دي مليو ممثل الأمم المتحدة، وتكرر ذات الانتباهة في مفصل خطير من تاريخ العراق المعاصر في اللقاء الأخير مع ممثلة الأمم المتحدة مع سيد الحوزة الدينية، بنموذجها الابوي لجميع العراقيين ، في ((رفض التدخل الاجنبي في الشأن العراقي واتخاذ البلد ساحة لتصفية الحساب بين بعض القوى الدولية والإقليمية)).
فما الفارق بين احاديث الامس وحديث اليوم، وكلاهما له منهج واحد ثابت ؟؟
يبدو من الممكن الإجابة على هذا السؤال في الاتي:
أولا : لعبة الأمم ، كانت وما زالت وستبقى منهجا يتجدد في السياسات الخارجية للدول الإقليمية المجاورة للعراق والدولية التي لها مصالح كبرى في الشرق الأوسط ، واعتقد ليس المطلوب ان لا يكون العراق جزءا فعالا في السياسات الدولية ، بل ان يوظف الظروف الدولية لصالح الهوية الوطنية الواحدة المفقودة طيلة عقد ونصف مضت ، وهناك من يسعى ان يلعب العراق دور( الموازن ) الإقليمي لتضارب مصالح دولية معروفة ، وهذا يعتمد على حسابات غير عراقية ، ولا تصب بالضرورة في خانة مصالحه الوطنية ، وتحويله الى مناصرة طرف على طرف اخر ، في معادلة الغالب والمغلوب ، تجعل كيان الدولة الهش ،امام استحقاقات كبرى لا مناص الخروج منها باتجاه المصلحة الوطنية ، لكن هذا التحليل في حسابات اجندات الأحزاب، ومعطيات المواجهات التي حصلت مع الإرهاب الداعشي ، تجعل بوصلة السياسة العراقية تأخذ اتجاهات دون أخرى ، فيما تاريخ العراق القريب والبعيد يؤكد ان تحذير المرجعية الدينية من لعبة أمم جديدة في عراق اليوم انما يقدم المصلحة الوطنية على اية حلول أخرى وان كانت هناك افضليات حتمية في عراق الغد .
ثانيا : معضلة مفاسد المحاصصة ، أدخلت العراق في دوامة تبادل الأدوار فانتهت العدالة الانتقالية الى نموذج انتقائي، وتحولت أموال العراق في بحر ريع النفط الهادر الى مفسدة تجويع الشعب وشيوع الامية والجهل والفقر وانحدار مستوى الخدمات ، ولست بصدد المقارنة بين حقبة حكم واخرى ، فيما واقع الأمور يظهر المواطن العراقي لم يحصل على ابسط الحقوق التي نص عليها الدستور وانتهى الى ظهور نموذج مما اصفه بـ ( جمهور حواسم الانتخابات) كشريحة مجتمعية طفيلية مستفيدة مفاسد الأحزاب ، وللاسف هناك الكثير من النخب الإعلامية والأكاديمية والمثقفة، انزلقت الى هذه الشريحة لأغراض مادية بحتة بعناوين ايدولوجية شتى ، تترجم لذة السلطة بعناوين مختلفة ، وهي من قام بتغيير النتائج المرجوة للإصلاح في كل تظاهرات او اعتصامات ، الى ترسيخ نموذج مفاسد المحاصصة وتشابك مصالح الأحزاب بالشكل الذي جعل المتظاهرين يرفعون شعار ( نريد وطن)!!
السؤال الثالث: ما الحلول الفضلى في إدارة الازمة الحالية ؟؟
لست بصدد نصح الحكومة او مجلس النواب او القضاء، كسلطات دستورية، لان أي منها لم يستمع لما سبق وان طرح من أفكار لإصلاح أخطاء التأسيس للدولة العراقية الجديدة ما بعد 2003، ولا اعتقد انها اليوم يمكن ان تستمع لما يطرح لصالح مستقبل الأجيال العراقية المقبلة، لكن الواجب الشرعي والإنساني ناهيك عن الوطني، يتطلب القول:
أولا : في إدارة الازمات هناك نموذجين ، الأول ما يعرف باللعبة الصفرية ، وتقوم على طرح وتنفيذ حلول لإنهاء الازمة ، وقدم الدستور العراقي هذه الحلول في حل البرلمان والانتخابات المبكرة ، وهذا النموذج رفض من الطبقة السياسية وروج له وعاظ السلاطين الجدد بشتى أنواع التحليلات وقدمت له الأحزاب عدة خطب وبيانات ، تفترض ان مثل هذا الحل سيدخل العرق في نفق العقم السياسي لاختيار شخصية بديلة لرئيس الحكومة ، فيما لم يذكر اصل الموضوع في إعادة تكوين الدولة من خلال اصلاحيات جذرية ، تكررت الدعوة لها في خطب المرجعية الدينية العليا حتى ( بح صوتها ) !!
لذلك اعتمدت الطبقة السياسية النموذج الثاني في اللعبة العددية، لأسباب تتعلق بطبيعة مفاسد المحاصصة وارتباطاتها الإقليمية والدولية، وهي مثار تشخيص دقيق في لقاء المرجعية مع ممثلة الأمم المتحدة الجديد كما سبق وان شخصته في لقاءات سابقة خلال عامي 2003 و2004.
مشكلة الحلول التي طرحت اليوم حتى من ممثلة الأمم المتحدة انها تطرح مساومات بين الطبقة السياسية، وبالتالي بين ارتباطاتها الإقليمية والدولية، وعليه فان صياغة أي قانون للانتخابات دون حضور الإرادة الوطنية في توحيد الهوية العراقية على أساس المواطنة كعقد اجتماعي، لن تنه وقائع مفاسد المحاصصة وسيتم استبداله بنموذج جديد، سرعان ما يظهر رفضه من قبل الشعب المتظاهر اليوم على هذه الطبقة السياسية.
لعل افضل الحلول ليس في إعادة انتاج الطبقة السياسية بل إعادة تمثيلها وفق استحقاقات شعبية معروفة في تحليل العلاقات الاجتماعية مع الأحزاب ، ويتمثل ذلك في تعديل قانون الأحزاب مع قانون الانتخابات ، بإلغاء مواصفات الأحزاب ذات الصفة الواحدة وتحديد الهوية الوطنية الواجبة دستوريا كعقد اجتماعي صفة أساسية لتأسيس الأحزاب المشاركة في العملية السياسية وعلى ابسط تقدير ان يمثل المجلس التأسيسي لأي حزب يرغب دخول الانتخابات عشرة محافظات عراقية، عندها وعندها فقط ، يمكن ان نتكلم عن عراق واحد وطن الجميع ، ونرد على سؤال لمتظاهرين (نريد وطن).