لست أظن أن منصفاً يصدّق حكاية الدفاع عن الحرية والديمقراطية التي تتلطى وراءها دول التعاون الخليجي لتبرير تواطئها مع حلف الأطلسي لترتيب أوضاع جديدة في المنطقة العربية ؛ فأنظمة دول الخليج العربي وبكل المعايير هي من بين الديكتاتوريات المتسمة بالوحشية والتخلف ؛ فبالأمس فقط سجنت حكومة قطر مواطناً لأنه نظم قصيدة شعر شعبي ناقدة للنظام , واعتقل خمسة ناشطين في دولة الإمارات لأسباب سياسية , ومازال دوي الرصاص يلعلع في مدن البحرين , وفي مدينتي الحسا والقطيف السعوديتين , حاصداً أرواح أحرار طالبوا بالمساواة وبالديمقراطية .
في ظني أن لدول الخليج العربي دافعين للعبها دور مخلب الشيطان الغربي الذي يهدف الى إعادة رسم خريطة المنطقة العربية والشرق الأوسط , أولهما اقتصادي وثانيهما سياسي :
1- بلغ مجموع استثمارات دول الخليج في العالم الغربي 1.5 ترليون دولار , نصفها في أوروبا ونصفها الآخر في الولايات المتحدة الأميركية , وتركزت تلك الاستثمارات في أسهم الشركات المتعددة الجنسية , واستثمارات غربية متنوعة؛ وهذه الاستثمارات مهددة اليوم بالانكماش والتآكل بسبب الأزمة الاقتصادية التي تضرب دول الغرب , والتي تنذر بتكرار كارثة كساد عام 1929 العظيم الذي كان واحداً من أسباب الحرب العالمية الثانية , فبعض دول اوروبا مهدد بالإفلاس , وعملة اليورو معرضة للانهيار , وبلغ العجز في الميزانية الأميركية رقماً غير مسبوق في تاريخها ؛ وليس صدفة أن الهجوم الأطلسي على ليبيا قد تزامن مع تفاقم هذا التدهور الاقتصادي الغربي ؛ وفي ذات اليوم الذي قُتل فيه العقيد معمّر القذافي , ردّ رئيس المجلس الانتقالي الليبي الجميل لحلف الأطلسي بدعوة دوله لإعادة إعمار ليبيا , ولأن ذلك البلد قد أصابه دمار شبه كامل , فإن صفقات ضخمة تنتظر فيه الشركات المتعددة الجنسية العاملة في مجالات البناء والاتصالات والبترول والخدمات والتكنولوجيا والصناعات , وهي – لمحاسن الصدف – ذات الشركات التي يستثمر حكام دول الخليج العربي أموالهم الطائلة فيها ؛ وهذا التربّح من الكوارث له سوابق في العراق عندما حصد كبار المسؤولين الأميركيين ثروات طائلة من وراء احتلاله عام 2003 , فعلى سبيل المثال ورد في وثائق أميركية أن ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي كان يمتلك قبل العام 2003 حوالي مئتي ألف سهم في شركة ” هاليبرتون ” وكانت قيمة السهم وقتها عشرة دولارات , وعندما غادر منصبه عام 2009 كانت قيمة السهم قد ارتفعت الى أربعين دولاراً , أي بنسبة 300% , وذلك بسبب الأرباح التي جنتها شركته من تعاقداتها مع سلطة الاحتلال الأميركي ؛ ودرّ المنجم العراقي ذهباً لشركات أخرى كان مساهماً فيها بحصص ضخمة وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد , وجورج شولتز وجيمس بيكر وزيرا الخارجية السابقان , وجيمس ولسي مديرالمخابرات المركزية الأسبق , وتوم ريدج وزير الأمن الوطني في إدارة جورج و. بوش .
2- بنظرة متأنية على خريطة الشرق الأوسط , نتبين أن الدول العربية التي يُراد تسليم السلطة فيها للإسلام السياسي , تقع جميعها على شاطيء البحر الأبيض المتوسط المواجه لأوروبا , بدءاً من تركيا حيث يحكم الإسلاميون فعلا , نزولا الى سوريا هدف المؤامرة اليوم , ثم الى لبنان الذي ستختل توازناته الداخلية إذا سقط الموقع السوري , ثم تتصل السلسلة باسرائيل التي يُراد لها أن تهيمن على المنطقة العربية , ثم يمتد الساحل الى مصر التي يستعد الاسلاميون فيها للانقضاض على السلطة , ومن بعدها الى ليبيا التي تسلّم الاسلاميون السلطة فيها على طبق غربي طافح بالدم , ثم تليها على الخريطة تونس التي استلم الاخوان المسلمون فيها الحكم , ثم الجزائر التي تعيش فترة ريبة ومستقبل مفتوح على كل الاحتمالات , ويمتد الشريط البحري الى المغرب حيث نال الاسلام السياسي رئاسة الوزارة , لينتهي بموريتانيا التي سبق للمال القطري أن أغواها للاعتراف اسرائيل منذ منتصف التسعينات. منذ عقود والغرب يعرض مشروعاً تلو آخر لثني عرب هذا الشريط البحري عن الالتفات لواقعهم القومي , ولربطهم بمصالحه الاقتصادية والسياسية , كان أولها مشروع ” الفرانكوفونية ” المثير للجدل , وثانيها مشروع الشراكة عبر المتوسط , وأخيراً مشروع الشرق الأوسط الجديد , وهي جميعها مشاريع كان أساسها دمج اسرائيل بالمنطقة العربية ؛ وبرغم ضغوط أوروبا والولايات المتحدة فإن أياً من هذه المشاريع لم يثمر ؛ غير أن هذا الحال سيتغيّر بصعود الاسلاميين الى السلطة على سلّم غربي , فهم بايعاز مباشر من دول الخليج قد قبلوا دفع الثمن المتمثل بالتعايش مع اسرائيل وإخضاع اقتصاد بلادهم لقوانين العولمة . ولقد كانت سوريا والعراق – في عهد النظام الوطني – الدولتان الوحيدتان اللتان رفضتا الانخراط بهذا المشروع , وكذلك تمّ التخلص من النظام العراقي بتواطؤ خليجي فاضح , وتجري اليوم محاولة إسقاط سوريا بأساليب لم تتكلف عناء تمويه كذبها وابتذالها , إذ بدأ التحريض ضدها تارة بدواعٍ طائفية وتارة أخرى بمزاعم الدفاع عن الديمقراطية , وكأن الاسلام السياسي لم يكتشف الا اليوم أن مفاصل السلطة السورية منذ عام 1966 هي علوية المذهب , وكأن أنظمة الخليج مطهرة من وباء الطائفية , و تتمرغ شعوبها في نعيم الديمقراطية والحرية !
اتخذت المؤامرةعلى سوريا أشكالا متعددة من التآمر تمثلت بما يلي :
ـــ تزويد الارهاب الاسلامي بأسلحة يجري تهريبها من تركيا ومن لبنان وحتى من اسرائيل .
ـــ تمويل عصابات الإجرام الجنائي لتقوم بعمليات قتل عشوائي للمواطنين وتخريب المنشآت العامة .
ـــ تبييض السجل الدامي لزمرالإرهاب وعلى رأسها رياض الشقفة زعيم الاخوان المسلمين ونائبه زهير سالم المسؤولان منذ الثمانينات عن جرائم القتل الطائفي على الهوية , وتفجير السيارات المفخخة في أحياء سوريا السكنية وأسواقها . ـــ محاولة تمزيق الجيش السوري بشراء ذمم ضعاف النفوس فيه برواتب شهرية تتراوح بين ثلاثة آلاف دولار للضابط وألف وخمسمائة دولار لضابط الصف , وألف دولار للجندي , وتواطؤ تركيا لتأمين ملاذ آمن لهم في مدينة أنطاكية , وبذل الوعود لهم بتوطينهم في مغاني اوروبا والولايات المتحدة إذا لم تجر الأمور كما هو مخطط لها .
إن المستهدف من ذلك كله هو سوريا الدولة وكيانها ووحدتها والراية العربية المرفوعة فيها , وذلك لأسباب معلومة : 1- هي الدولة الوحيدة في العالم بلا ديون خارجية تثقل كاهلها وترتهن إرادتها , والمطلوب تدميرها وربطها بقيود صندوق النقد الدولي , والبنك الدولي , وبشبكة العولمة الاقتصادية .
2- دولة تملك اكتفاء ذاتياً غذائياً شبه كامل , والمطلوب جعل اقتصادها تابعاً لاقتصاد الشراكة الشرق أوسطية – الغربية .
3- تمتلك سوريا ترسانة عسكرية لها وزنها , فجيشها يتكون من نصف مليون جندي , وأسطول مدرع تعداده ستة آلاف دبابة , ومصانع حربية تنتج نصف احتياجات قواتها المسلحة , ولديها قوة صاروخية تتضمن ألف رأس حربي غير تقليدي, والمطلوب تكرار ما حصل في العراق وتجريد سوريا من درعها وسيفها , حتى يخفت صوتها العروبي و يبقى قرارها مرتهناً لدى وكلاء حلف الأطلسي في الشرق الوسط : تركيا واسرائيل وقطر .
………………………
………………………
تدور منذ سنوات ولأول مرة في التاريخ , اتصالات بين الولايات المتحدة وبين الاخوان المسلمين بوساطة قطرية وسعودية وصلت الى تفاهمات نشهد اليوم نتائجها العملية , بالرضا الأطلسي والاسرائيلي على الإخواني الليبي مصطفى عبد الجليل ومجلسه المتأسلم , وبإعلان الاخواني السوري صدر الدين البيانوني على الفضائيات بملء فمه أن اسرائيل موجودة كأمر واقع لا يمكن تجاهله , وبالاتفاق الذي وقعه محمود عباس مع حركة حماس الاخوانية والذي نصّ على التهادن مع اسرائيل ومواجهتها بالمقاومة السلمية , وبحديث رئيس وزراء المغرب الجديد الاخواني عبد الإله بن كيران عن علاقات متميزة مع الغرب ؛ وبإعلان إخوان مصر أنهم سيلتزمون بمعاهدة كامب ديفيد ؛ وبقبول الاسلام السياسي في السودان على تقسيم البلد مقابل بقائه حاكماً على ما تبقى منها . إن المحصلة الخطيرة لذلك كله أن المسألة لن تبلغ حدها بإسقاط سوريا , وإنما سيكون مقدمة للمؤامرة الكبرى التي تستهدف حشد قوى الاسلام السياسي السنّي برمّته في بلاد الشام وشمال افريقيا وتركيا والخليج العربي , ودفعه لمعركة مفتوحة مع الاسلام السياسي الشيعي في ايران والعراق ولبنان , ومقدمات هذه المعركة أصبحت ملموسة ويجري تداولها يومياً في وسائل إعلام آل ثاني وآل سعود.