17 نوفمبر، 2024 7:18 م
Search
Close this search box.

لسوريا لا للأسد – 1

لسوريا لا للأسد – 1

شهدت قطر في صيف عام 1995 تغييرات جذرية قلبت معالم وجهها الراكدة , و نقلتها من الظل الذي كانت قابعة فيه الى قلب الأحداث الكبرى التي قد تغيّر شكل الوطن العربي الى سنين طويلة قادمة ؛ ففي ذلك الصيف وبترتيب لا شك فيه مع بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية , قام الأمير حمد بن خليفة بأربع خطوات كبيرة ومفاجئة , كان أولها الاستيلاء على السلطة بعد خلع أبيه من الحكم , وتلاها فوراً توزير حمد بن جاسم , ثم تأسيس علاقة معلنة مع اسرائيل والسماح لها بفتح مكاتب تمثيل دبلوماسي وتجاري في العاصمة الدوحة , وكانت خطوته الرابعة فتح أبواب قطر وخزائنها لفصائل الاسلام السياسي , وقد تولّت فضائية الجزيرة – وهي قوة قطر الناعمة الى جانب ثروتها المالية – تغطية تلك السياسات بأقنعة الاسلام والمقاومة – فضلا عن أنها عوّضت الأمير بلسانها الطويل عما عجزت عنه يده القصيرة !                         
قام الغرب بالوفاء بتعهداته للأمير حمد بتأمين نظامه وحمايته , فقبل مرور سنة على توليه الحكم , كشفت له أجهزة مخابراته محاولة انقلابية ضده قادها ضباط قطريون ينتمون لقبيلة بني مرّ , فواجهها الأمير بإعدام أولئك الضباط , ثم أسقط الجنسية القطرية عن قبيلة بني مرّ بكاملها , وأمر بطردها من البلاد بعد أن منع أبناءها من التصرف بممتلكاتهم , بل وأخرج المرضى منهم من المستشفيات الحكومية , وكذلك وجد حوالي سبعة آلاف قطري أنفسهم هائمين في الصحراء يلتمسون مأوى في الأراضي السعودية ؛ ولم يسمع أحد يومها كلمة احتجاج من أوروبا أو من مفوضية حقوق الانسان , أو من جامعة الدول العربية . وكذلك ترسخت صفقة التعاون الاستراتيجي بين أمير قطر وبين حلفائه الغربيين , فهو قد أثبت من جانبه استعداداً بلا حدود لخرق محرّمات السياسة العربية , وأفسح أصدقاؤه من جانبهم لقطر مكاناً على خريطة العالم  ومنحوها نفوذاً ناطحت به دولاً اقليمية كبيرة مثل مصر والسعودية .                                                            
عندما أطلّت الألفية الجديدة كانت صورة قطر السياسية غريبة تبعث على الدهشة كلوحة سوريالية تستعصي على الفهم :  
– على أرضها تنتصب أكبر القواعد الحربية الأميركية في الشرق الأوسط .                                                  
– في عاصمتها الدوحة تفتح مكاتب التمثيل التجاري والدبلوماسي الاسرائيلي أبوابها شأنها شأن الدول الشرعية .          
– تستضيف عاصمتها مقرً الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرأسه فقيه الارهاب يوسف القرضاوي .                 
– تتوافد على عاصمتها فصائل الاسلام السياسي بلا انقطاع التماساً للرزق وللتوجيهات , مثل حركة حماس الفلسطينية , وتنظيمات الاخوان المسلمين , والحزب الاسلامي العراقي , وكتائب ثورة العشرين العراقية , وكوادر تنظيم القاعدة , وحركة مورو الاسلامية في الفيلبين , وجماعة باعشير الارهابية في أندونيسيا , وجماعة لشكر طيبة في كشمير, وحركة طالبان بفرعيها الباكستاني والأفغاني , وجند الاسلام في ايران ؛ و لم يكن احتضان قطر لتلك الفصائل الاسلامية بسبب ورع الأمير حمد وتقواه , فالرجل بعيد تماماً عن التعاطي مع مسائل الدين , فهو على سبيل المثال لا يعرف الفرق بين حديث نبوي وآية قرآنية , وقد حدث أن قال في مقابلة تلفزيونية مسجلة ومحفوظة , أن القرآن الكريم يحضّ المسلمين على طلب العلم ولو في الصين ! وفي واقع الحال أن الأمير قد أراح عقله وسلّم كل ما يتعلق بالجهد السياسي الشاق لرئيس وزرائه حمد بن جاسم , ولعل موقع هذا الأخير في صلب السياسة القطرية مؤشر واضح على اتجاهاتها التي تبدو للوهلة الأولى منافية للمنطق ومتناقضة , وقد لا توجد مبالغة في القول أن قصة قطر اليوم هي قصة حمد بن جاسم .               
جيء بحمد بن جاسم من عالم المال الى عالم السياسة كجزء من خطة نفخ إمارة قطر وتعظيم حجمها , وهو لا يحمل مؤهلا علمياً ذا شأن , ومع ذلك يُقال أنه من أغنى رجال قطر وأكبر رجل أعمال فيها , فقد رأس مجلس إدارة أهم شركاتها ومؤسساتها الاقتصادية , مثل الخطوط الجوية القطرية , وهيئة الاستثمار الخارجي , وشركة الديار للاستثمار العقاري, وهي جميعها تستثمر فوائض أموال الغاز والبترول القطري في العالم الصناعي المتقدم ؛ ومن المعروف أن معيار نجاح الاستثمار في عصر العولمة هو تكديس الأرباح بصرف النظر عن الوسيلة التي تحققت بها , ومضاعفة الصفقات بغض النظر عن هوية أطرافها , وكذلك وجد حمد بن جاسم نفسه يحقق النجاح من خلال علاقات عمل مع أطراف قد تبدو متنافرة , لولا أن صلة المال في ذلك الوسط تتقدم على صلات الدم والمبدأ , فقد ضمت شبكة علاقاته ومصالحه رجال أعمال اسرائيليين ويهوداً غربيين يمتلكون مصالح مالية واقتصادية هائلة , مثل آل روتشيلد , ومورجنتاو , وغولدمان , وسليكمان ؛ وفي ذات الوقت كان قد أنشأ علاقات عمل واسعة مع قياديين في التنظيم الدولي لحركة الاخوان المسلمين كانوا قد أقاموا في أوروبا , وأصبحوا من كبار رجال الأعمال فيها بفضل الأموال السعودية التي انهالت عليهم في ستينات القرن الماضي أجوراً لهم على محاربتهم المدّ القومي العربي الذي قاده في تلك الفترة جمال عبد الناصر ؛ ومن أبرز هؤلاء السيد يوسف ندا المصري – السويسري , وشريكه سعيد رمضان زوج كريمة حسن البنا مؤسس الاخوان المسلمين , والسيد غالب علي همّت المصري – الأميركي . وكان محتماً أن تلفت تلك العلاقات الفريدة التي يمتلكها حمد بن جاسم – فضلا عن أفكاره اليمينية المحافظة – أنظار من يعنيهم الأمر في الغرب واسرائيل , فبدأوا بالاهتمام به منذ أواخر تسعينات القرن الماضي , ووجدوا فيه صلة الوصل الأنسب بينهم وبين الاسلام السياسي الذي كان يبدو كقوة صاعدة في مجتمعات عربية تحكمها أنظمة سياسية متيبسة , وكان الرجل بعقليته المتجردة من المباديء مستعداً للمضي بذلك الدور ومتحمساً له خاصة وأنه وجد الطريق ممهداً أمامه , فالإخوان المسلمون كانوا جاهزين للاستجابة لتلك الإيماءة الغربية – الاسرائيلية ببدء عهد جديد من التفاهم والتهادن ؛ لقد كان للإخوان المسلمين خاصة وللاسلام السياسي عامة منذ أن وجدوا , هدف واحد لا ثاني له , هو الوصول الى السلطة السياسية في أي بلد ولو كانت الصومال , وأياً كان الطريق المؤدي اليها ولو كان محفوفاً بالشبهات , ودون التوقف عند هوية اليد التي تمنحهم إياها ولو كانت يهودية .                                                  
……………………..
……………………..
توصّل الغرب لنتيجة مؤداها أن أمن اسرائيل على المدى الاستراتيجي لن يتحقق إلا بتغلغلها في كل زاوية من الشرق الأوسط كدولة طبيعية تقيم علاقات كاملة مع كافة دوله , ولقد كانت تركيا بعد وصول الاخوان الى السلطة , نموذجاً ناجحاً
لتعايش اسلامي – اسرائيلي , وأدرك الغرب كذلك أن فساد الأنظمة العربية الصارخ قد حرمها من تأييد شعوبها التي جذبها نداء ” الاسلام هو الحل ” كأمل للخلاص من بؤسها وفقرها وتخلفها , فكانت الخطوط العريضة التي جرى تحديدها وتكليف أمير قطر ورئيس وزرائه بتنفيذها , تتناول ما يلي :                                                                              
ـــــ فتح الطريق بكل الوسائل أمام الاسلام السياسي للوصول الى الحكم , بعد ضمان قبوله التعايش مع اسرائيل كإغراء لاستمراره بالسلطة , وليضمن تأييد الغرب ومساعداته , وهو ما حدث في غزة ويحدث اليوم في ليبيا , ويجري التخطيط لتنفيذه في تونس ومصر .                                                                                                           
ـــــ تمويل الفصائل الاسلامية في البلدان المضطربة , لتمكينها من أداء أنشطة يستغني بها الناس عن وجود الدولة .       
ـــــ تبييض وجه الاسلام السياسي بالإلحاح على التزامه بالدولة المدنية وبالديمقراطية , وبحقوق المرأة والأقليات الدينية . 
ــــ التركيز بداية على دول عربية عرفت وجوداً تاريخياً للاسلام السياسي فيها , مثل تونس وليبيا ومصر وسوريا , واللافت أن هذه الدول عرفت أيضاً وجوداً يهودياً قديماُ على أرضها , يدور حديث اليوم عن امكانية عودته اليها .         
ــــ تحريض الاسلام السياسي على إسقاط أنظمة الحكم بالتظاهر والتحشّد في الشوارع والميادين وشلّ الحياة العامة , ثم قيام عصاباته بارتكاب جرائم ذات أبعاد قبلية أو طائفية , و التعرض بالسلاح للجيش والشرطة لجرّهما الى ردّ يستدعي تدخل قوات حلف الأطلسي – الحريصة على سلامة المواطنين العرب – كما حصل في ليبيا وكما هي النية مبيّتة لسوريا .
ــــ تسخير فضائية الجزيرة لشن حرب نفسية مسعورة على الأنظمة المرشحة للاستهداف , تستخدم فيها كل قدراتها على استدعاء شهود الزور , والكذب والتلفيق بأساليب التكنولوجيا الرقمية .                                                          
في الوقت ذاته يتولى حلفاء قطر – حتى لا أقول سادتها – تنفيذ الجانب المتعلق بهم من الخطة , وذلك بطبخ قرارات دولية في مجلس الأمن , وفي جامعة الدول العربية , وفي مفوضية حقوق الانسان , لتكون غطاء أممياً يعطي الشرعية لعدوانهم المسلّح . وكذلك تُوّجت سنوات من الوساطة القطرية الدؤوب بين الغرب واسرائيل وبين الاسلام السياسي , بفتح الطريق أمامه لتحقيق حلمه التاريخي بالوصول الى السلطة , رافعاً راياته الدامية , مشهراً فكره المتخلف , مستسلماً أمام الإملاءات الاقتصادية الغربية , وملتزماً بسلام كامل مع اسرائيل لن يعجز القرضاوي عن تبريره بفتوى شرعية.                      
……………………..
……………………..
التقيت في مدينة الكويت عام 1985 بالأديب الفلسطيني السيد علي الحسن , وهو واحد من القادة التاريخيين للإخوان المسلمين , وعضو قيادة في تنظيمهم الدولي , ويرتبط بصلة وثيقة مع حركة حماس , وقد سألته يومها في سياق نقاش دائر حول الحرب العراقية – الايرانية , عن حكم الشرع الاسلامي بشراء السلاح من العدو الاسرائيلي , فقد راجت في تلك الفترة أخبار حول قيام ايران بعقد صفقة سلاح مع اسرائيل لاستخدامه في حربها على العراق ؛ وقد فوجئت بذلك القائد الاخواني يبرر السلوك الايراني بقياس فقهي يضفي شرعية دينية على التعامل مع اسرائيل , وكان مؤداه أن رسول الله محمد قد توفي ودرعه مرهونة لدى يهودي ! و لقد كان ذلك الرد نموذجاً أميناً لمجمل الفكر المنحرف للاسلام السياسي الذي يريد الغرب واسرائيل تسليمه السلطة في أوطان عربية تخلت عنها السماء .       

أحدث المقالات