18 ديسمبر، 2024 10:00 م

لذة العبور نحو الشرق قراءة في مجموعة “رقصة التنين ” (1) للقاص العراقي عامر هشام الصفار

لذة العبور نحو الشرق قراءة في مجموعة “رقصة التنين ” (1) للقاص العراقي عامر هشام الصفار

أول ملاحظة يمكن تسجيلها هو أننا إزاء نصوص مختلفة سواء من حيت الطول أو الجنس، تأخذ تجنيسا موحدا ( ق ق جدا )، فعدد النصوص يتجاوز المائة والعشرون نصا. ونصوص المجموعة ارتبطت في مجملها بالخاطرة، والموقف، والأخبار، والأحداث العامة ، التي يتم بلورتها بمجهود كبير في قالب القص القصير جدا. كما تضمنت نصوصا ارتبط أغلبها بالجانب المهني والاشتغال اليومي للكاتب كالطرائف، وقضايا محيطه الصغير، أو في علاقته بالوطن، أوالمجال الذي يقطنه كالمدينة (كارديف )، وعلاقات العمل، أو كنتف من السيرة الذاتية التي ارتبطت بعلاقاته الخاصة، و ذكرياته التي نقلها بمرارة في مواجهة إكراه أزمنة ولّت، مرتبطة بأمكنة تم نسجها وفق مقارنته بين وصف معالم مكان إقامتة (كمغترب) والوطن الذي من خلاله يسترجع الذاكرة المنسية ، خصوصا بغداد ومحيطها. كما عثرنا على نصوص كتبت انطلاقا من مشاهداته كسائح لبلدان عربية منها المغرب، أو أحداثا نسجت انطلاقا من نقل وقائع حقيقية جرت على ألسنة أصحابها. ما يدفعنا إلى التساؤل حول كيفية الاشتغال في بعض نصوص هذه المجموعة وعن الخلفيات الابداعية والفنية التي كتبت بها.
الكتابة /المكان / الابداع
إن تأثير مجال الاشتغال كطبيب نطاسي، فتح عيني الكاتب على الكثير من القضايا الخاصة ببلد الاقامة – كارديف – ومدى تأثير تقاليده في النظر إلى الكتابة ذاتها. يبرز ذلك من خلال الاسهاب في الوصف لتفاصيل جانبية تدفع القصة إلى الاكتناز الذي يفقدها أحيانا لذة التلقي،  ويتناقض مع طبيعة الاشتغال في القصة القصيرة جدا التي ترتكز على الاضمار والحذف والتكثيف ….وهي مقومات تسيّر نقل الحدث إلى الذروة بالسرعة المطلوبة وتحقق العصف غير المتوقع لانتظار المتلقي، مع ما يخلقه الأثر من دهشة وإثارة أو غرابة.
فاشتغال القاص عامر هشام الصفار على مادة قصصية جديدة لها ارتباط خاص بمجال تخصصه كطبيب، جعله يتوفق كثيرا في العديد من النصوص، وكتبها دون تكليف، مثلا في نص ” ثري ” ص 2 يقول السارد:
“أقرباء المريض الثري حوله كل يوم ..قال لهم طبيب مبتدئ أن حياته في خطر .. في نهاية الأسبوع بدأ الثري يتشافى ..وبدت غرفته خالية من الزوار”.
إنه نص بني على عنصر المفارقة، ويبرز آفة الطمع الذي يعري مفهوم ونوايا أصحابه بسرعة ..ويقدّم قيم أخلاقية تروم الحثّ على التمسك بالقيم النبيلة وترسيخها عوض الدافع المحفوف بالاستغلال البشع والرهيب . كما أن القاص يبرز بشاعة المشهد الثقافي من خلال نص ” لسعات” ص 30 وما يدور في الكواليس من صراعات بين المثقفين  (الشعراء خصوصا) حول الاستئثار والاستفراد بشاعرة مبتدئة لجمالها، لتفريغ نزواتهم، حيث ستتركهم يتصارعون وتنسحب، وهي سخرية مشيّدة على طرح نقيض مضمر أي أن أساس الصراع وضرورتة يجب أن تكون حول قضايا الشعر وقضاياه. فنص لسعات يعّد نموذجا مثاليا على دقة التشييد.
ويلجأ الكاتب إلى التوسل بالأنسنة في بعض النصوص كنص “ورود ” ص 33 ” وقرب جبل قاسيون” ص 38 وهي أنسنة تبرز كدلالة على الوردة / المرأة ارتباطا بعلاقته المهنية والحياتية .فحزن الوردة في النص الذي يحمل نفس العنوان وهي كناية على امرأة جميلة لا يعرفها بالمقارنة مع دلالة الوردة الحمراء الناعسة، الدال على امرأة في الذاكرة أو في البال. وقد علّل ذلك بكونه شمّ عطرها كإحالة على (علاقة سابقة)، وستتكرر هذه الدلالة في نص ” قرب جبل قاسيون ” للإشارة إلى حب قديم يقول السارد  “ينظر بأمل حيث الوردة الحمراء القانية، فيرى أوراقها الذابلة كبيرة تبلّلها قطرات ماء تراءت له دموعا حارة ظلت تسيح وتسيح”.
كما تحتل الكتابة كفعل حيزا مهما كما برز من خلال بعض النصوص ك ” أهل السياسة ” ص 36 باعتبارها كتابة فكرية لم يعد لها متلق، وليس مرغوبا فيها حتى للعرض في واجهات المكتبات، ما دامت كتب الفضائح وحدها تتصدر المبيعات. كما يمارس النقد سطوته وضجته الحالمة بالاختلاف والخلاف وتضارب الأفكار، وتضحى أفلام شارلي شابلن الصامتة درسا بليغا صامتا، عمل على انتقاد منظومات فكرية واقتصادية لم يستطع النقد الحداثي ولا الكلاسيكي بلوغه.
فالكتابة هاجس يومي يعيشه الكاتب وهو يمارس طقوسه الغريبة كما في نص ” كاتب ” ص 47 حيث نلمس أن البحث عن قصة ضائعة سيقود الكاتب إلى اكتشاف نفسه بعد استيقاظه من الحلم والإحساس بذاته وكينونته كإنسان جديد.
فالكاتب كائن اجتماعي يتأثر بثقافة الغير ويعجب بها، ويضحى أكثر ارتباطا بأسرته الصغيرة ومؤثرات المحيط.  لكنه تأثير يبقى ظاهريا مادام لاوعيه وأحاسيسه الباطنية أكثر ارتباطا بالماضي وببلده الأصلي كلما استّبد به الاعجاب أو التشبيه أو المقارنة  كما في نص ” تنور ” ص 44.
فالحنين إلى الوطن يطغي بحضوره ويتجسّد في نصوص الكاتب عامر الصفار، ويظل حاضرا من خلال كتابات تفوح منها رائحة الاغتراب، كما هو الأمر في نص ” بيتي ” ص 53 حيث نلمس الفرح مجسّدا من خلال قيام السارد باستنساخ صورة البيت الذي لم تتح له ظروف قاسية (سياسية ) من زيارته. يقول السارد ” لي بيت جميل في بغداد لم يتح لي الذئب زيارته منذ أعوام ، فاستنسخته في أرض غربتي “. فالاغتراب سيظل السمة البارزة والواضحة والمؤثرة في ذات أحسّت بعنفه وهو يمزق حلكة لياليها بسكين حاد. وقد لمسنا عنف هذا الطرح في نص ” القاتل” ص 58 حيث أن هروب الظل له دلالته على الاحساس بالانشطار والاغتراب الذي يولّد الرتابة.
لقد ظلّ الكاتب وفيا لذكرياته التي تطفو من حين لآخر بشكل ملموس ومؤثركنص “عام جديد” ص 63، حيث ينقل العديد من التفاصيل الخاصة بمسقط الرأس. فالأشياء المهملة والأمكنة تستحضر لتحقق عبور الكاتب من بلد الاغتراب نحو الشرق عبرالقيام بمقارنات – غالب الأحيان – في لحظات الاحساس بالحزن والوحدة أو الحنين.
إن المكان يسكننا، ومعالمه تظّل مشيدة بأعماقنا على الدوام، فهي أمكنة تجتاحنا تفاصيلها وأحداثها ، فنظل مسايرين لأخبار البلد الأصلي بنوع من الغيرة على قيمه والإخلاص له ولو عن بعد، كنوع من الوطنية، كما هو الأمر في نص ” نصيحة ” ص 61 حيث نلمس هذا الطرح يقول السارد مبلّغا عن مؤامرة إعلامي ينصح صديقا له متجه نحو العراق ” إذا أردت أن تحصل على ما تريد من العراقيين فعليك برشوتهم ب “بطل ويسكي اسكتلندي ” لم أحتمل صبرا فنشرتها مبلّغا كل العراقيين عن فاجر جديد يريد بهم السوء”.
بعض نصوص المجموعة تنطوي على مفارقات جميلة لكنها تفتقد إلى البناء العاصف مما يفقدها أحيانا جماليتها بسبب الاسهاب في الوصف، كنص ” زيارة ” ص 60 حيث تبرز صورة المغترب دائما مغتربا حتى بعد العودة إلى الوطن، يتجلى ذلك من خلال طريقة لباسه وسلوكه المتأثّر ببلد الاغتراب، ومما يعمق هذا الطرح نظرة أهل البلد له ” أحسّ المغترب أن كل الناس قد عرفوه ..الزائر المغترب الذي ترك مدينته منذ سنين وجاءها اليوم حاملا جواز سفر أجنبي”.
لقد لاحظنا أن النصوص القصصية القصيرة ترتحق من السيرة الذاتية للكاتب وهي تعرض تفاصيل انبعثت من رماد الذاكرة، تبنى بنوع من التوازي مع الحاضر المعاش وتعمل على تجاوز عقبات الماضي وأشواكه التي ظلت مندّسة في الروح من خلال تصحيح مسارها مع ابنائه وتلبيته لرغباتهم التي هي في الواقع رغباته الدفينة التي لازالت حاضرة بقوة نظرا للمنع والحرمان اللذان عايشه وخلّف خدوشا في الذاكرة ( نصوص : الدراجة ص 43 الساعة ص 37 / بائع السمك ص 66).
نصوص مستقاة من واقع معاش
في نص ” رقصة التنين ” ص 71 الذي هو العنوان الحامل للمجموعة نلمس اندفاع الزوج وانسياقه في رقص مع سيدة غريبة ومنتش إلى حد بعيد، سيلاحظ مراقبة زوجته وهي غاضبة يقول ” في لحظة الزمن التقت عيناه بعيني زوجته الواقفة قرب منصة رسم عليها تنين أحمر، بدا له التنين وكأنه ينفث الدخان من منخرين كبيرين ” ص 71.
إنها نصوص ارتبطت أكثر بمشاهداته وحياته اليومية سواء مع زوجته أو أبنائه وأصدقائه كما هو الأمر في نص ” ضمير الغائب ” ص 62 الذي يبرز أثر الانفتاح على العالم الافتراضي الذي بقدر ما ينقل وقائع وتعليقات ونقاشات فردية تتحول إلى جدال مبهم أحيانا أو مشاهدات مرّت عابرة في لحظة زمن  “حدث معي في مانشستر ” ص 65 ونص ” فقدان ذاكرة ” ص 67 ونص حادث ص 68 ونص “2012” ص 60.
  البناء الحدثي وتنوع التشييد
يبرز التشييد التقابلي في العديد من النصوص التي تبرز المفارقة الساخرة كنص ” عراقية ” ص 32 الذي يعري التركيبة النفسية لأفراد المجتمعات.  فمقاييس الجمال تحدّدها البيئة والتقاليد الاجتماعية المنتمي إليها، ولا تتخذ كقاعدة موحدة، وإنما تستنتج من زوايا نظر واعتقادات أكثر ارتباطا بنمط الحياة والأخلاق والدين.
فالجمال في نظر العراقية أن تكون الفتاة سمراء عيناء زجاء في حين تعتبر صفات الجمال في المجتمعات الآخرى غير مقبولة كما هو الشأن مع المرأة الانجليزية ” بيضاء خرقاء …لا هي بالكحلاء ولا الهيفاء”.
نفس التشييد نلمسه في نص ” كاري هندي ” ص 32 من خلال الدعوة التي وجهت لمحاضر حول ضغط الدم وسيلاحظ المدعو من خلال مقارنته بين داخل وخارج القاعة ( الوجبات الدسمة المشبعة بالبهارات الحارة / في مقابل لغو الأطفال ولعبهم ورقصهم على أنغام هندية جميلة. ليظل الاضمار محيلا على المفارقة التي على المتلقي استنتاجها ومعرفة أسباب عزوف المحاضر على القيام بعرضه. وهو تشييد سيتواصل بدقة في نصوص أخرى مثل ” رزق “ص 31 بحيث يبرز النص نوعا من التوازي مع العديد من المتناقضات لنفس الشخص، كما يقدم صورتين متقابلتين ومتعارضتين من حيث الهدف والمعنى والاحالة (مسجد / حانة ) كدلالة على مسار واحد نحو البحث عن الرزق.
المفارقة والسخرية
ويمكن أن نستشهد بنص ” زواج ” ص 29 الذي بقدرما تنجز المفارقة وقعها، تبرز الاستهتار والتخاذل من مشاعر الآخرين. فالناس ينطوون في النهاية على أحزانهم وجنونهم وهم يتجرعون ويلات لسعات البعض وتصرفاتهم بتعليلات واهية في انتظار أمل جديد واشراقة قد تحجبها سحب مثقلة بأعذار وهمية، فوحدها الذات تسخر في النهاية من نفسها وهي دائما معرّضة للاستفزاز في زمنها الرديء يقول السارد ” تنهمر الدمعة من عينيها بسهولة ..ضحكتها نادرة ، تمّ زواجها ، فراحت تلبس نظارات سوداء تخفي بهما عينيها الدافئتين”.
وقد رصدنا العديد من النصوص الآخرى تحت عنوان فرعي يحمل كل منهما عددا من النصوص الوامضة والساخرة ك” مطعم / وجبة / سكّر / مشفى / ص 27 جوع / سن اليأس ص 28 من واقع الأفراد وحياتهم، وهم في سعيهم السريع نحو تحقيق اطماعهم من خلال الوقوف على هناتهم وزلاّتهم في مواجهة واقع مرير.
لقد عرضت المجموعة القصصية “رقصة التنين” للقاص العراقي عامر هشام الصفّار العديد من المواضيع،  وانتقدت العنف والبؤس والغدر والحروب والكذب والحرمان من خلال تشييد نصوص بمفارقات هدفت إلى إعادة الاعتبار للذات والإنسان والقيم. كما رصدت العديد من الصور القاتمة في بلدان مجاورة كالمغرب من خلال تشغيل الأطفال ” نص ” زيت اركان ” ص 18 وفي سوريا من خلال الاغتيالات التي يتعرض لها المبدعون ” الرسام” ص 12 والوضع العراقي “حالة”  ص34 ، ونخلة ص 13 وبلد الاقامة في ” خمسة أيام في لندن ” ص 51 و “المصفحة” ص 42 و “لحم اصطناعي”  ص 67 ومن التقنية ” الروبوت ” ص 25. أنها نصوص مجموعة قص مقتت الموت والدمار وسعت للبحث عن عالم بديل. كما أنها قدّمت موقفا جريئا وصادقا من قضايا الواقع العربي وهمومه، أو الواقع الغربي وهناته وجنونه كذلك.
ــــــــــــــــــــــ
ناقد وقاص من المغرب . خنيفرة) )

(1) عامر هشام الصفار رقصة التنين ( ق ق ج ) دار أقلام للنشر كارديف ويلز المملكة المتحدة