كنت اهرب من الحب هروبي من زبانية البعث, فانا اعلم ان الحب هو الكلمة الاصعب ترجمتها في زمن صدام, رغم اني انسان مرهف الحس, حيث كلمة “ممنوع:” هي الاكثر ترددا في حياتنا تحت مظلة العفالقة, لذلك كانت قدرتي على رفض الحب كبيرة جدا, وهذه عقلانية كبيرة تطيح برغبات الحب, ودوما استحضر بيت الشعر الذي يقول:
مَوتُ الفَتى في عِزَّةٍ خَيرٌ لَهُ مِن أَن يَبيتَ أَسيرَ طَرفٍ أَكحَلِ
لكن هي الأقدار التي لا مفر منها, لذلك يجب ان احدثكم عن فتاة الكتب… التي جعلت تلك القلعة الحصينة التي بنيتها ضد الحب تسقط امام اول نظرة منها, التقينا مصادفة في ربيع عام 1997 , في معرض بغداد للكتاب, كنت لحظتها حائرا بين كتابين ايهما اشتري؟ بين رواية الجريمة والعقاب ورواية الاخوة كرامازوف, لقد قرأت عنهما الكثير وهذا ما حفزني للسعي لاقتنائها لولا عسر الحال, فكان علي ان أختار أحدهما… لكن بقيت مترددا.
فبدد تشابك افكاري صوت انثوي هز كياني..: ” اشتريهما معا”.. التفت اليها بكل كياني فرايت اجمل فتاة, بيضاء ذات شعر اشقر مقصوص على الاكتاف, وعينين كبيرتين برموش تشبه عود قائد الاوكسترا, الحقيقة للوهلة الاولى ضعت في تفاصيلها, الى ان انتبهت لحماقتي بعد ان اعادت على نصيحتها.. ” نعم… اقتنيهما معا, فكلاهما يستحق القراءة”.
حاولت اخراج الحروف لكن كنت ابتلع حروفي وكل كياني يهتز, لا اعلم ما سبب ما اعانيه في سبيل الإجابة, فيما بعد قلت بتلعثم وببطء: ” نعم, كلامك منطقي جدا”.. ثم تشجعت للاستمرار بالكلام أكملت جملتي: “لكن يبقى السعر هو ما يتحكم بما سوف اشتري, هل تعلمين لو كان الأمر حسب ما احب لاشتريت كل معروضات هذا المعرض, لكن علي ان اقبل بتحكم الاسعار برغباتي”.
تبسمت… والتفت الي بكامل جسدها لتصبح امامي تماما, انثى بهية الطلعة, تحمل كيسا كبيرا من الكتب, ثم قالت: “اعاني نفس المحنة تقريبا, وهي الرغبة بشراء الكثير من الكتب, لكن محدودية المبلغ يمنعني”.
فكرت كيف ممكن ان افتح حوارا ممكن ان يكون مفيدا لكلينا, وجاءتني فكرة.. فقلت لها: “ان أملك صندوق بريد, ومن الممكن ان نتبادل الكتب والروايات ان احببت, فاعتقد ان لديك الكثير مما لم اطلع عليه, كما ان لدي مكتبة عامرة بالأدب الروسي والعربي”.
سكتت قليلا تفكر, ثم تبسمت.. وقالت: ” لدي ايضا صندوق بريد ايضا, انها فكرة ممتازة ان نتبادل الكتب عبر صندوق البريد”..كان هذا أجمل اقتراح أنطق به ذلك اليوم… سررت جدا بموافقتها.. ثم قلت لها : اعرفك بنفسي جليل ويسموني اصدقائي جليلفيسكي لاني معجب جدا ديستوفيسكي, وانا طالب مرحلة ثالثة في كلية الآداب.
نظرت طويلا في عينيها, ادركت جيدا انني وقعت في حب هذه الفتاة, فانا كالتائه في حضور سحرها, حتى يخيل الي ان اللغة في فمها أشهى من كلِ القصائد.
أطرقت قليلا نحو الأرض خجلا من نظراتي الوقحة, ثم قالت: ” اسمي الهام, وانا طالبة في كلية التربية, في المرحلة الاولى”.
اخرجت قصاصة وكتبت فيها رقم صندوق بريدي, اخذتها مني ودستها في حقيبتها الصغيرة, وطمنتني بأنها سترسل لي رواية بأقرب فرصة.
كانت افكر ان افتح بابا للحوار يبدد ختام اللقاء, فسألتها عن ما اشترته من كتب, افرحها سؤالي, لكن قالت: “يجب اولا ان نجلس فقد تعبت من التجوال, فجلسنا في مكان يحوي على طاولة غريبة, لم يكن يجلس فيها احد, وكان اقتراحي انا ان نجلس فيها, هي ترددت قليلا, لكن جلست عندما جلست قبلها, حيث كان المهم عندي ان اغتنم فرصة فراغ الطاولة, لقد كان عطرها مما يأخذ بالعقل, هذه الانثى كل ما فيها يسكرني, كنت اجاهد كي ابقى على حد اليقظة… تحدثنا كثيرا عن الكتب والروايات, شعرت بتشابه كبير بيننا, وحزمت أمري ان لا اتركها ابدا.
وفجاءة أحاط بنا جمع من الرجال ذوي البدلات الزيتوني, وقال كبيرهم لي بعد سيل من الشتائم: ” كيف تجرأت وجلست في مكان الاستاذ عزت الدوري”… ثم التفت نحو جماعته وقال لهم: “اقبضوا عليهما”.
مرت أكثر من ثلاث سنوات في متاهات السجون وتحطيم الكرامة, لم يبقى مني الا الاسم, ذبلت كل احلامي, بكيت ليالي طويلة على حالي, ولاني السبب في حصول مكروه لتلك الفتاة الجميلة, كم كان حظها عاثر بان تحدثت معي في تلك الساعة, نعم .. يأخذ الانسان الدروس المؤلمة من الأشياء التي أدخلها قلبه وأستأمنها عليه.
بعد اعوام من الذل قرر الطاغية صدام عفوا عاما عن السجناء والمجرمين والقتلة واللصوص لأهداف سياسية تنفعه..
خرجت… وتَطلب مِني الأمرُ سَنوات لأدرك أنَ الكَلمات في عَقلي كانَت أعمَق كثيرًا مِن أنْ يَلتقطها لِساني, نعم خرجت الى النور لكن خرجت محطما, ضاعت الاحلام والاماني وسحقت الذات, وكل ما حدث لي كان بسبب الحب والكتب, وكان اهم قرارتي الجديدة هو ان لا أقرأ شيئا للأدب الروسي, وأن لا اقع في الحب.
لكن في داخلي كان هناك سؤال ملح ومهم عن الهام؟ ترى هل هي بخير؟ ام مثلي تم سحقها!
——————–
- من مجموعتي القصصية الجديدة عن سنوات حكم البعث
- الكاتب اسعد عبدالله عبدعلي
- 07702767005
- العراق-بغداد