منذ أن وقعت محاولة اغتيال رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي بهجوم جوّيّ على قصره داخل المنطقة الخضراء المحصّنة، والذي يبعد أقلّ من كيلومترين عن السفارة الأمريكيّة العملاقة، ونحن في دوّامة الاتّهامات المتبادلة بين العديد من القوى العراقيّة!
محاولة اغتيال الكاظمي قيل بأنها نفّذت بثلاث طائرات مسيّرة ملغّمة استهدفت مقرّ إقامته في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، ولم تسفر سوى عن بعض الأضرار المادّيّة البسيطة، وقد فشلت المحاولة وذلك بعد إسقاط طائرتين ووصول الثالثة لهدفها دون أن يكون لها أيّ تأثير يذكر!
ومع ذلك ووفقا لمعلومات من بعض المتواجدين في المطبخ السياسي العراقيّ فإنّ الكاظمي لا يتواجد في قصره الرسمي، وأنّه يستخدم أماكن بديلة لتواجده وذلك من باب الاحتياط والحذر من القوى التي قد تحاول تصفيته بوسيلة أو أخرى!
القوى الخاسرة في الانتخابات البرلمانيّة العراقيّة التي جرت في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي تتّهم الكاظمي بفبركة هذه عمليّة الاغتيال للتغطية على التزوير في الانتخابات!
ومع خطورة العمليّة حاول الكاظمي تهدئة الأمور، ودعا كلّ القوى للحوار، ولكنّه في ذات الوقت أمر بتشكيل لجنة تحقيقية في واقعة الاغتيال الفاشلة، برئاسة قاسم الأعرجي مستشار الأمن القوميّ، وعضويّة كبار رجال الأمن والمخابرات في العراق.
وقد ذكر الكاظمي خلال مرحلة عمل اللجنة 7/11/2021 بأنّ حكومته تعرف الذين نفّذوا الجريمة وستكشفهم، وستلاحقهم وتقدّمهم للمحاكمة، وقد كرّر الكاظمي هذه المعلومة في ثلاثة اجتماعات!
وهذه المعلومات كرّرها أيضاً مشرق عباس المستشار الخاصّ للكاظمي بعد أسبوعين تقريبا من تصريحات رئيس الحكومة، مؤكّدا بأنّ الأيّام المقبلة ستشهد الكشف عن بعض الحقائق والأفلام والصور عن محاولة اغتيال الكاظمي.
وخلال فترة التحقيق وبسبب تراخي اللجنة التحقيقية، وربّما عدم جدّيّتها، بحسب رؤية بعض السياسيين، وبالذات أولئك الذين حقّقوا نتائج جيّدة في الانتخابات ولهذا رأينا من بعضهم ضغوطات وتهديدات بضرورة كشف المتورطين بالحادثة!
وبعد ثلاثة أسابيع من تشكيل اللجنة هدّد مقتدى الصدر بالكشف عن الجهات التي سعت إلى اغتيال الكاظمي إن لم تكشفهم نتائج التحقيقات، وأكّد على ضرورة إلقاء القبض على من أسماهم “الإرهابيين الذين قاموا بهذا العمل المشين، وإنزال العقوبة المناسبة بهم”!
وقد لوحظ أن بعض القوى التي تحوم حولها الشبهات، وهي من القوى المالكة للسلاح والرجال، حاولت استباق نتائج التحقيق، وأعلنت عدم قبولها بإدخالها في دائرة الاتّهام، وكأنّ المريب يقول خذوني!
وهذا ما فعله قيس الخزعلي أمين عام ميليشيا عصائب أهل الحقّ، وأحد المعترضين على نتائج الانتخابات ضمن الإطار التنسيقي (الشيعيّ)، والذي أكّد قبل يوم واحد فقط من إعلان نتيجة التحقيق أنّ” اتهام فصائل المقاومة بحادثة الاغتيال لعب النار ومحاولة لجرّ البلد إلى أزمة كبيرة”.
وكرّر تشكيكه بمجمل حادثة الاغتيال، بدليل عدم تشغيل منظومة “سي آر إم” (CRM) الدفاعيّة الخاصّة بالسفارة الأميركيّة!
وبعد هذه الضغوطات السياسية الكبيرة، وأكثر من ثلاثة أسابيع من التحقيقات، أعلنت لجنة التحقيق في اغتيال الكاظمي بعضا من النتائج غير الواضحة، والملغّمة بتلميحات لجهات عراقية متورّطة في العملية دون أن تذكرها بالاسم!
وقد أعلن رئيس اللجنة قاسم الأعرجي أنّ قصف منزل الكاظمي تمّ بطائرتين مسيّرتين ألقت مقذوفين، وأنّ” أحد المقذوفين انفجر والثاني لم ينفجر، وقد فوجئنا بقيام مفرزتين تابعتين لجهاز مكافحة المتفجرات والأدلّة الجنائيّة بتفجير المقذوف الذي لم ينفجر دون رفع البصمات”!
وأغرب وأخطر ما جاء في كلام الأعرجي أنّ” اللجنة التحقيقيّة لم توجه التهم لغاية الآن إلى أيّ شخص أو جهة، وأنّ التحقيق يحتاج لمزيد من الوقت لمعرفة الأسباب وراء عدم رفع البصمات وتفجير المقذوف”!
فكيف لجهاز رسمي يفجّر أدلّة الجريمة في منزل أعلى سلطة تنفيذيّة في البلاد؟
ثمّ كيف يستقيم كلام اللجنة التحقيقيّة المبهم مع تصريحات رئيس الحكومة ومستشاره الخاصّ وكلام زعيم التيار الصدري الذين أكّدوا مرارا بأنّهم يعرفون الذين نفّذوا محاولة الاغتيال لرئيس الحكومة؟
وخلاصة القول إنّ اللجنة التحقيقيّة لم تأت بأيّ معلومة جديدة أو مهمّة، وكلّ ما فعلته أنّها غيّرت رواية الحكومة، وقالت بأنّ طائرتين وليس ثلاث طائرات هي التي نفّذت الهجوم، وأنّهما أطلقتا من شمال شرقي العاصمة، وهي مناطق مسيطر عليها من القوى المعترضة على نتائج الانتخابات!
النظرة الدقيقة لمحاولة اغتيال الكاظمي تؤكّد أنّها ليست مجرّد كونها قضيّة تصفية لشخص رئيس الحكومة، وإنّما هنالك من عدّ الأمر كمحاولة انقلاب كاملة، ومخطّط لها من قوى هي أقوى من الدولة.
وقد أكّد ليّ أحد السياسيين أنّ القوى المعارضة للكاظمي، وبعضهم متّهمون بالحادثة، تمتلك ما لا يقل عن خمسة آلاف طائرة مسيّرة، ولديها أكثر من لواء مدجّج بأحدث الأسلحة الأمريكيّة داخل المنطقة الخضراء، وتستولي على مناطق حسّاسة، ومنها الجادرية والحارثية والكرادة في العاصمة بغداد!
ومع هذا الواقع الذي يرجّح كفّة قوى داخل العراق على كفّة الحكومة، ومع هذه النتائج غير الواضحة نتساءل:
هل تغطية لجنة التحقيق على القوى المنفذة للهجوم هو من باب التهدئة، أو، ربّما، من باب التهديد الخفي عبر لجنة التحقيقات ضدّ القوى المتورّطة بالحادثة أو المعترضة على نتائج الانتخابات، أم أنّها (اللجنة، أو الحكومة) خائفة فعلا من ردود الأفعال غير المتوقعة في حال اتّهامها لأطراف تمتلك الرجال والسلاح، وربّما حتّى بعض الشعبية؟
ومع ما تقدّم قد تكون تلميحات اللجنة التحقيقية رسالة للإطار الشيعيّ الرافض لنتائج الانتخابات ودفعهم لترضية الكاظمي للبقاء في المنصب لولاية ثانية من أجل التستّر على المتورّطين منهم في الحادثة!
وبعيدا عن كافّة هذه الاحتمالات فإنّ الواقع العراقي المليء بالألغام يدفعنا لعدم تصور أنّ اللجنة ستمتلك الجرأة الكافية لتحديد القوى التي نفّذت العمليّة، وبالذات مع بعض التسريبات بأنها جزء من الإطار التنسيقي الشيعيّ المعارض لنتائج الانتخابات!
ولربّما كلّ ما يجري الآن يدخل ضمن سياق محاولات التغطية إما على نتائج الانتخابات أو صرف النظر عن المشاركة الشعبيّة الهزيلة فيها!
وفي أفضل الاحتمالات فإنّ ما يجري هو صراع مصالح بين قوى يهمّها بالدرجة الأولى تأمين أحلامها الحزبيّة والشخصيّة ولا تنظر لمصلحة الوطن والمواطن ضمن أولويّاتها!
وهكذا أتصوّر أنّ نتائج اللجنة التحقيقيّة سيكون حالها كحال اللجان السابقة، وسيكون مصيرها أدراج المكاتب، وفي طيّ النسيان!
وفي أفضل الأحوال ستدخل نتائج التحقيقات، والتي قد يتمّ التعتيم عليها، ضمن حوارات تشكيل الحكومة المقبلة، وسياسة تكميم أفواه بعض القوى الفاعلة!
خلاصة ملفّ التحقيقات، إن ثبت تورّط بعض القوى الفاعلة فيها، فإنّ الكاظمي سيبقى رئيسا للوزراء لولاية ثانية، وبخلاف ذلك فإنّ هذه الضربة، ( أو التحقيقات) ستكون بداية النهاية لدور الكاظمي في الساحة السياسيّة العراقيّة!
والأيّام هي الشاهد!