هذه الايام على خلاف ما مر منها، السياسيون كلهم يتبنون شعار الدولة المدنية، من اليسار واليمين، من الاسلام الذي يسمى معتدلاً الى الاسلام المتطرف، ولكن أي منهم لا يسعى الى بناء هذه الدولة في البلاد والمجتمع.. وايضاً فيما بين كل هؤلاء هناك مساحة تتعايش بها قوى تنحاز الى هذا الفهم او ذاك، بل بالاحرى انها تفسر المدنية تفسيراً متعسفاً. هذه موجة ركبت لان الناس لم تعد ترغب في العيش والاحتكام لما تم بناؤه خلال سنوات ما بعد سقوط نظام صدام حسين، وقد عبروا عن ذلك صراحة في المجالس والدواوين والمحتشدات الخاصة والعامة وبقوة وجلاء، وعمدوا ذلك بالتضحيات الجسام، لقد دفعوا ثمناً باهظاً بارادتهم حين صوتوا الى قوى الاسلام السياسي الذي فشل في انجاز مشروع الدولة لفقدانه البوصلة المرشدة، والان عليهم ان يقدموا ليستردوا دولتهم.
ومن هنا ايضاً ادرك الجمهور الذي اكتوى بحكم الفساد والنهب واللاعدالة وغياب الانجاز وتردي الاحول المعيشية الى درجة مخيفة، فقد تجاوز عدد العراقيين الذين تحت خط الفقر ثلث سكان البلاد.
هذه القوى والاطياف ليست لديها مرجعية فكرية تتحكم اليها بشأن مفهوم دولة المواطنة، الدولة المدنية، دولة المساواة امام القانون، والعدالة الاجتماعية، الاختلافات الفكرية بين القوى حاملة السلطة والقوى خارجها عميقة كل منها لها تفسيره ومصالحه وما يتناسب مع سياساته وطموحه الى سوس الناس تحت ادارته..
لا احد منها يتحاور مع الشعارات التي ترفع في ساحات الاحتجاج الممكن سن مفاهيم تراعي الخصائص المحلية لبلادنا، الى جانب المفاهيم والتجارب الناجحة الاممية في بناء هذه الدولة. ليس بمستغرب الان كل الاطياف تدعو الى الدولة المدنية والى الديمقراطية المهم بالنسبة للبعض ان يلبس هذا اللبوس سواء كان يناسبه ام لا ليعدي به المرحلة، ومن ثم يحور به على وفق مقاساته بغض النظر عن ان يكون معيباً ذلك، الغاية ادامة سلطته، ويمسك بتلابيبها الى حين مثل ما فعل في السنوات الماضية. ان القوى المدنية الحقة بحاجة الى ان تباشر بحملة واسعة للتعريف بمؤسسات الدولة المدنية وكيفية بناء احزابها ومفاهيمها السليمة وجوهرها الصحيح من دون تشويه وتلفع بدثار لا يغطي عوراتها.
الان توجد انظمة عديدة في الجوار وفي عالمنا الفسيح يمكن ان نلاحظ الفروقات بينها، واكتشاف ما يرغب به البعض من نظام مماثل، وكلها تدعي انها دول مدنية.. لدينا المثال الايراني والتونسي واللبناني .. وابعد من الجوار بلدان اليونان واوربا الشرقية سابقاً كلها بنت دولاً مدنية متأثرة بها وصل اليه القرب الرأسمالي.. علينا ان نشدد ضغوطنا على الذين ادخلوا الى برامج احزابهم بناء الدولة المدنية لكي يفصحوا عن ماهية هذه الدولة وعناصرها ولا تكون مجرد شعار للاستغفال وخداع المواطنين لامتصاص النقمة جراء نظام المحاصصة وتقاسم السلطة والمغانم.
ان الدولة المدنية لا تطيق قيوداً او فكراً يحتكر الحياة الثقافية والسياسية في البلاد، ولا زعامات تتسلط الى الابد، ان الثابت فيها التغيير الدائم المواكب للتطورات على كل الصعد وامكانية تبادل المسؤولية واستبدال القادة والعدالة الاجتماعية والتقيد باحكام القانون ولا سيطرة لقلة او اغلبية الا بارادة الناخبين وتنتفي فيها الامتيازات على اساس الولاءات الفطرية والفرعية