اعلان استقالة سعد الحريري من الرياض يرسم ملامح نقطة الشروع في حقبة جديدية سوف تمر بها المنطقة بشكل عام وتعكس هذه الاستقالة المفاجئة والحادة الطبع وتداعياتها المباشرة سمات المرحلة المقبلة.المرحلة المقبلة هي مرحلة احتدام الصراع الاقليمي الذي تؤججه طموحات شديدة لمحمد بن سلمان في زعامة داخلية بل اقليمية يخطط لخطفها كاملة بلا ادنى منازع ولو من اقرب المقربين. زعامة تنتهج القوة اسلوبا وحيدا لادارة الحكم والازمات ومنهجا احاديا لفض الاشتباكات في كل الميادين سواء الخارجية منها اوالداخلية.
ولم يعد السؤال الذي يشغل بال الجميع اليوم، هل ان سعد الحريري استقال بتقدير شخصي وقرار خاص به بناءا على رؤية خاصة، متوافقا بذلك مع حلفاءه السعوديين ام انها استقالة لا رأي له فيها ولا قرار بل هي استقالة باملاء سعودي محض. فهذا الحديث اصبح من الماضي، بل ولم يلتفت اليه اصلا لان الاستقالة التاريخية جاءت من عاصمة الحكم السعودي في ظهور يتيم للرئيس المستقيل ولم يظهر بعدها حتى ولو لمزيد من التبرير للاستقالة التي فاجئت حلفاءه قبل خصومه واثارت كثيرا من الاستغراب والتعجب وكان من المنطقي جدا ظهوره ولو بتصريح مقتضب لدفع كل هذه الفوضى التي خلفها ظهوره المرتبك على شاشة تلفزيون سعودي. وحتى حزبه تيار المستقبل ولا حلفاؤه الداخليين تمكنوا من تبرير الاستقالة. انما لجأوا الى اسلوب الدفاع عن الرئيس وليس عن قراره الذي لم يفهموا حتى اللحظة سبب صدوره المفاجئ رغم ادراكهم انه املاء سعودي. الاندفاعة السعودية الرسمية والاعلامية في تبرير الاستقالة ولغة التهديد الموجهة الى لبنان باجراءات تعكس توجها سعوديا حادا لمعاقبة لبنان وقواه السياسية ان لم يذعنوا لهذه التوجيهات والاملاءات السعودية التي تطالبهم بعزل حزب الله عن الواقع السياسي وهو امر يعرف كل متتبع عربي واقليمي فضلا عن اي لبناني انه قرار اقرب منه للمستحيل وهو مناطحة صخرة بقرون من ورق. بل انهم يدركون بوضوح شديد ان هذه دعوة علنية للاحتراب الداخلي وعودة للحرب الاهلية التي قرر اللبنانيون ان رجوع اليها مهما احتدمت الخلافات بينهم لما ذاقوا من ويلات هذه الحرب وانتهوا الى خلاصة ونتيجة من جيش النازحين والخراب الاقتصادي فضلا عن بحر الدماء ان لانصر في هذه المعارك لاي طرف مهما كانت قوته ومهما وقفت خلفه من قوى اقليمية او دولية. وادركوا يضا انه لا يمكن تحقيق اي خطوة الى الامام في هذه الحروب العبثية في اي مشروع لحل المشاكل بين الجهات والاحزاب والقوى بتنوع توصيفاتها. ان الاحتراب والاحتكام الى السلاح عمق وزاد من كم ونوع المشاكل وحولها الى ازمات مستعصية ولا يمكن العودة الى ممارسة عقيمة من جديد.
وايضا لم يعد السؤال هل ان الرئيس الذي اُجبر على الاستقالة هل هو محتجز ام لا. فقد فشل الرئيس الفرنسي في لقاءه مع انه جاء الى الرياض خصيصا لمناقشة تداعيات الازمة الناتجة عن هذه الاستقالة وكان للسعودية ان ترفع كل هذه الاتهامات بلقاء مختصر بينه والحريري، بل وظهرت الخارجية الفرنسية بعد ذلك بتمنيات بان يحظى الرئيس المستقيل بحرية الحركة. وبمجرد ان تقول الخارجية الالمانية انها لا تملك معلومات عن احتجاز الحريري فهو دليل على تحديد حريتهن لمن يعرف ما يعني ذلك في العرف الداخلي للسياسة خصوصا عندما يظهر التعبير عن قلق اوربي من عملية اخفاء الحريري. تصاريح وكلمات وسط سياسي محسوبة تصدر بدقة وليس كما تبرز من دول متخلفة او فاشلة لا يأبه بالعادة لما يقول ممثلوها الخارجيون.
وزارة الخارجية في الدول ذات المؤسسات الرصينة لا ترد على شائعات حتى اذا تعلقت بسيادتها فضلا عن كونها تهتم بشائعات تخص بلدا صغيرا مثل لبنان يتوارث ازمة رئاسة الحكومة ليس الان ولا منذ عقود بل منذ ظهوره بشكل الجمهورية اللبنانية. فخروج اكبر دولتين اوربيتين تمثلان الزعامة للمنطقة الاوربية وابداءهما حرصا واضحا على التعليق يعكس مخاوف حقيقية لديهما من تطورات الازمة واستمرار الاحتجاز الذي سيزيد من تفاعلات هذه الاستقالة، وليس لان الاحتجاز حقيقة ام لا.
كما ان استماتة السعودية بكل مستوياتها الاعلامية والرسمية وصولا الى مستوى وزير الدولة لشؤون الخارجية ثامر السبهان بدفع التهمة، فيما يقابله عجز كامل عن تقديم الحريري حتى ولو بتصريح مقتضب يرد على الشائعة امام الاعلام مشافهة.
كل هذا يؤكد مسألة الاحتجاز ومما يجعلها حقيقة يتعامل الكل معها على انها كذلك، وليست افتراضا. ودعوات الرئيس اللبناني ميشال عون ومطالبته السعودية بتوضيح الاسباب التي تمنع من عودة الحريري الى لبنان وتلميحه الى تدويل مسألة احتجازه. بل ان تيار المستقبل بنفسه خرج سياسيا وعائليا يطالب بعودة الحريري الى لبنان وقد تلا البيان احد صقور تيار المستقبل فؤاد السنيورة وقد جلست الى جانبه النائب بهية الحريري مما يعبر عن قلق حقيقي على وضع الحريري ويعبر عن انقطاع الاتصالات بشكل تام معه حتى على مستوى العائلة ومما يزيد في تكريس هذا المعنى هو مطالبة عراب تيار المستقبل العمة بهية الحريري بحضورها الشخصي. هذا الحضور الشخصي نفسه هو الذي بارك لسعد زعامته لتيار المستقبل وللجمهور السني في لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري . العراب ذاته يطالب الان بذهول وحيرة بعودة ابن اخيها سعد الرئيس المستقيل او المقال سعوديا بتعبير اصح . كل هذا لا يبقي مجالا للتشكيك او للتساؤل ان الحريري محدد الاقامة والتحرك ام لا بل يرسخ هذه الحقيقة التي تحاول السعودية ارجاعها الى مستوى التشكيك.
اذن ما هو السؤال الحقيقي وأين المشكل والمأزق الحقيقي؟ السؤال باختصار هو ما الذي سوف يجري في لبنان من قبل السعودية؟
وعندما نحدد هذا السؤال بهذه الطريقة ونحصره بالاجراء السعودي وفي لبنان حصرا. فهذا يعني كما لو اننا نحصر تداعيات هذه الاستقالة بحدث سوف يقع في لبنان تحديدا دون غيره. نعم ان الحدث المستقبلي القريب سوف يقع في لبنان وربما يبقى فيها لفترة طويلة وقد لا يخرج منه وربما لا ينتقل الى اي مكان آخر الا بحركة هامشية محدودة خصوصا مع توفر الارادات الدولية الراغبة لذلك والتي يبدو من بعضها انها الان تشجع على وقوعه وليس على تمدده.
الموقف السعودي المفاجأ والتصعيد الحاد ينقلنا الى اجواء حادثتين مهمتين معاصرتين لا يزال حكم الامير محمد بن سلمان متورط فيهما بشدة ولا يجد مخرجا منهما وبلغ بهما مرحلة تكسير عظام خطرة واحراق لكل السفن وقطع ونسف لجميع الجسور . هاتان الحادثتان هما الحرب المفاجأة على اليمن وبدون مقدمات وانخراط السعودية فيها بشكل كبير بلا جدوى والثانية الحصار الخليجي المفروض على قطر بعد حادثة اختراق وكالة الانباء القطرية كما نزعم قطر او خطاب سري لامير قطر في محفل محلي كما تتهمه السعودية. وكيفما كان فان السعودية تشبتت بهذه الحادثة لتنتقل الى اجراءات تصعيدية خطرة واستعداء تام مع الجار القطري. كلا الحادثتين يكشف عن طبيعة النظام السعودي الجديد في التعامل مع الخصومات السياسية وتصعيدها بصورة خطيرة وحادة جدا تجلب معها كثير من التعقيدات والتداعيات وطبيعة تعامله الآني مع ازمة الاستقالة لا ينبيء بخروج النظام عن هذه الطبيعة، بل يرسخها بشكل متزايد وان كل خطوات النظام السعودي الجديد (ان صحت تسميته بالسعودي بعد حصر السلطة بيد سلمان وولده ولعل النظام السلماني هو التسمية الاكثر قربا للواقع بعد مذبحة المماليك الجديدة في قلعة الرياض الفندقية )هي من النوع الذي يستتبع ازمات كبيرة ومعقدة الحل. في كل المرات كان الهدف واضحا وصريحا في لغة النظام وايضا في كل مرة كانت الاجراءات لا تتسم بالتدريج بل بالقفز المتسارع لخطوات صعبة ذات وقع شديد تعمق من اطراف المشكلة.
الموقف الامريكي الغامض الذي شهدنا مثله في الازمة مع قطر واليمن من المؤشرات الجلية على موقف امريكي لتشجيع نشوب ازمة جديدة بلا حل. نعم ان امريكا لن تورط نفسها في اي صراعات عسكرية وهو موقف انتهجته امريكا منذ عهد الرئيس السابق باراك اوباما ولا تزال امريكا دونالد ترامب متمسكة بنفس المنهج رغم التعارض الظاهري بين الادارتين. فكلا الادارتين تريد ابعاد القوة العسكرية الامريكية عن التورط المباشر وتحيل الصراعات الى اطراف اقليمية بادارة امريكية للازمة للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية. وهذا ليس توجه ادارة معينة بل هو خيار امريكي استراتيجي في التعامل الدولي لمرحلة مقبلة قد تمتد لعدة عقود. اذن ان امريكا القوة العظمى ليس بممانعة لنشوء ازمة اقليمية بل تدعو بطريقة اخرى لنشوءها.
مع هذه العوامل الدولية والاقليمية تحديدا السعودية منها والامريكية يصبح من الجلي تطور ازمة الاستقالة الى ابعد من تصريحات وتشنج مواقف بل سيتخذ شكل اجراءات مواجهة بين لبنان والسعودية خصوصا مع الموقف اللبناني الداخلي الموحد ضد عملية الاجبار والارتهان لشخص رئيس الوزراء سعد الحريري والتجاهل السعودي والتعالي على الطلبات اللبنانية الذي عكسته لغة السبهان في حواره مع قناة العربية بالفاظ متدنية استعارها من لغة هابطة يمكن ملاحظتها في بعض مواقع التواصل الاجتماعي ليصف بها خصومه السياسيين في لبنان. وسوف تكون اجراءات مواجهة صعبة تضيف الى المنطقة تعقيدا جديدا. ولن يكون بمقدار الحكم السعودي (والاصح السليماني) الانتصار فيها فقد كان عاجزا في مواجهتين اسهل بكثير من هذه المواجهة. واعني بالمواجهتين اليمن وقطر وفي كلا المواجهتين تبين ان السعودية تغوص في مستنقع واسع وقذر وتتجه الى وسطه العميق بلا قرار اكثر مما تحاول الخروج منه واللجوء الى شواطئه للخلاص منه. اما لبنان فان حربها المقبلة ستكون موجهة بالاصل الى حزب الله الذي تقف وراءه ايران بكل قوتها وقد فشلت دوائر كثيرة وقوية في هزيمة هذا الحزب لما يملك من قوة ذاتية كبيرة جدا مضافا اليها دعم لا محدود من ايران المتبني الرسمي لهذا الحزب وكونها متبني له وليس بحليف تعني الكثير جدا في عالم الصراع السياسي. لبنان الان على شفا ازمة خارجية تقودها السعودية وستغوص السعودية في مستنقع اشد عمقا وايلاما من كل ازماتها السابقة، نعم انها ستجر ايران وحليفتها روسيا الى معركة تشتيت الجهد والاستنزاف بما يصب في مصلحة اسرائيل وامريكا في اضعاف المنافسين الاستراتيجين الحقيقيين، لكن كما كنت قد بينت في مقال سابق (الفخ المحكم) فان هذه الازمات التي تقودها السعودية وبتشجيع اسرائيلي امريكي لا يأمل الامريكيون ولا الاسرائيليون منها اسقاط ايران او روسيا على المدى القريب ولربما اقصى ما يريدوه هو استنزافهما والتقليل من حضورهما المتزايد بعد دورهم المتعاظم في المنطقة وتفوقهم المرحلي على الدور الامريكي. لكن ما يأمله الامريكيون والاسرائيليون فعلا هو تغييب العامل العربي من التحكم بأي مفردة في صراع الارادات الكبرى وحفظ امن اسرائيل من هذا العامل الى الابد بعد تصفية كل الدول العربية الكبرى والقوية، ويأملون بجر السعودية الى مستنقع لبنان وحزب الله الى جعل الساحة العربية ميدانا مفتوحا للصراع بين محور امريكا واسرائيل وحلفاؤهما من جهة ومحور روسيا وايران من جهة اخرى وخاليا من اي دور عربي بشكل تام.
وحتى اللحظة تقف اوربا مترددة مرتبكة امام السياسة الامريكية وتشعر بخطورتها منها على مصالحها اذ تدرك اوربا ان امريكا واسرائيل تتصرفان بشكل منفرد وبلا مراعاة حقيقية للمصالح الاوربية وفي الوقت ذاته تخشى اوربا من تغول الدور الروسي الذي بات اكثر وضوحا وقوة وعاد لشغل دور الاتحاد السوفيتي السابق وهو دور لجار قريب يسكن على حدود اوربا الشرقية ويمكن ان يخلق هذا الجار الروسي الكثير من المشاكل الداخلية لاوربا قبل ان يزاحمها في الصراع على مناطق النفوذ والمصالح في الشرق الاوسط.
اذن لبنان هو ساحة الحرب السعودية الجديدة ولكنها ستكون اخر حروب النظام السعودي الكبرى في المنطقة وبعدها سيتلاشى كل هذا النظام من الوجود خصوصا بعد ان فقد الدعم الداخلي من الاسرة الحاكمة بعد مجزرة الاحتجاز وايضا بعد ان تخلى عن مظهر الدولة الدينية المتشددة بخطوات عملية بل وبدأ يصفي خزينه الفكري بابعاد المدارس التي خرجت الجهاديين الذين كانوا وقود وجنود كثير من التواجد السعودي الخارجي. واستسلم النظام الجديد للشرط الامريكي بدعم النظام كقوة حليفة اساسية وحيدة في المنطقة بشرط تصفية الوهابية وحواضنها الداخلية والانخراط التام في استثمار اقتصادي استراتيجي بعيد المدى احادي مع امريكا لا تشاركه فيها اي قوة اخرى حتى لو كانت اوربا فضلا عن غيرها.