أن القضاة، أس الملك والعمران وبنيانه، والهادون إلى الحق والدالون عليه، والعاملون على حمايته، بهم يستقيم المعوج، ويقوم البناء المتصدع المرتج، وبواسطتهم يرجع الضال عن غيه إلى هداه، ويعود المتعجرف المتكبر والمتغطرس المتجبر إلى رشده وحجمه ومداه، وبهم نستنير في الظلمات، وإليهم نفزع عندما تدلهم الخطوب وتنوب النكبات والملمات، يدلوننا على السبيل المستقيم السالك، وعن طريقهم يقتضي الفقير حقه من الغني، وينال الضعيف نصيبه من القوي، وبهم يستقر الأمن والسلام في البلاد، وتشيع الطمأنينة والسكينة على العباد، فتستطيع ربات الحجال أن تقطع الطريق من البصرة إلى دهوك لا يعترض سبيلها قاعدة او مليشيات او معتد أو سارق، ويكون بمقدور الرجال أن يتنقلوا لا يخافون من عمليات قتل او خطف او عدوان جانح أو يخشون من اعتراض مارق، وبأحكامهم تحفظ العترات والأنساب، ويصان الشرف والعرض والمال والأحساب.
يحكمون بين الناس ويوزعون عليهم العدل بالمعروف، وقد يكون ذلك السبب في أن البارئ المقسط العادل قد خصهم بحمل صفة من صفاته؛ هي صفة العدل.
صحيح أن القاضي يوجد في ٌقلب اهتمامات المواطنين والمتقاضين بصفة خاصة والصحافة تلاحقهم بأخبارها عنهم بوصفها سلطة رابعة، أما السلطة السياسية المكونة من أحزاب ومنتخبين وبرلمانيين ووزراء وسياسيين ومعهم بعض المقاولين أو مدراء مقاولات صحفية وفي كل دول العالم، كانت لها دائما علاقات متشنجة مع القضاة نظرا لتضارب المصالح لدى الطبقة السياسية وتريد (حل مشاكلها) باستصدار أحكام القضاء، بينما هذا الأخير من المفترض ان لا ينظر إلى المسالة من الناحية الحزبية أو السياسية بل من الناحية القانونية الصرفة، ونحمد الله على أن الدستور العراقي منذ سنة 1925 وهو ينص صراحة على مبدأ استقلال القضاء، وإذا لم يعرف القضاة تفعيل هذا المبدأ منذ ذلك الحين فهذه مشكلتهم ومسؤوليتهم الشخصية، وعلى العموم كان دائما بين الطرفين أي القضاء والطبقة السياسية حذر متبادل وهو ما يفسر وجود القضاة قبل القضاء تحت المجهر، ولكن بعض المتهورين منهم إما لضعف التجربة أو لضعف الإيمان بالاستقلال لديهم أو لعدم توفرهم على الحاسة السادسة لا يستشعرون الخطر الذي يتهددهم ويتهدد القضاء كمؤسسة في سمعتها وكرامتها، ولهذا نسمع من حين لآخر بأن هذا القاضي أو ذاك يضع نفسه في أماكن مشبوهة أو مواقف محرجة لهم ولزملائهم ولمؤسسة القضاء، حتى أنه قال لي بعض الزملاء: كلما انطلقت وسرت مثل هذه الشائعات أو الفضائح يخجل بعض القضاة من التعريف بأنفسهم في بعض المواقف أو الحالات ويقولون شيئا آخر غير القضاء.
بعد أكثر من عشر سنوات من رئاسة الاحزاب الحاكمة للحكومة العراقية، لا زالت هذه الاحزاب تجتر مبررات غير معقولة لإبراز فشلها الذريع في تدبير ملفات امنية واجتماعية واخرى حساسة مطالبها دستورية وقانونية ومشروعة.
إن القاضي، حريص على احترام الشرعية وسيادة القانون باعتباره ضمير المجتمع وآماله، بل إن القضاء يشكل إحدى السلطات التي ترتكز عليها الدولة الديمقراطية، فهو الذي يحفظ وجودها من الانهيار ووجوده ضروري كضرورة القانون نفسه، فالدولة لا يمكنها أن تتقدم إلا بوجود القضاء وتنهار بانعدامه فهو كاف لازدهار العمران البشري فوق الأرض، لكون الجور والطغيان يشكل منع التطاحن والحروب بين البشر.
إن أغلب الدساتير في الدول الديمقراطية تنص على كفالة الحقوق والحريات بالتدخل الإيجابي، ومنها الحق الدستوري في العمل وتقلد الوظائف العمومية، والذي يعد جزءا لا يتجزأ من الحق في الكرامة الإنسانية والذي نصت عليه مختلف المواثيق الدولية (البند الأول من المادة 21 والمادة 23 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة 25 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والمادة 6 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإعلانات المنظمة العربية للشغل ومقررات منظمة العمل الدولية) .
لم يعترض ولم يجرأ القضاء العراقي على اتخاذ أي اجراء بحق رئيس السلطة التنفيذية ومن وراءه الحزب الحاكم وفي ذلك سد جميع أبواب إحقاق الحقوق، وهذا الموضوع يشكل طعنة من الخلف من قبل مؤسسة قضائية دستورية مفروض فيها احترام مبدأ حسن سير العدالة والسهر على تحقيق الأمن القضائي.
وقد حاولت السلطة القضائية العراقية في بعض مفاصلها، بتصريف مواقف سياسية عبر اجتهاد قانوني استخدم لنفس الغرض (تفسير الكتلة النيابية وتبعية الهيئات المستقلة وسلب البرلمان في حقه الدستوري في التشريع وغيرها).
طبقا للدستور والقوانين الجاري بها العمل لا يمكن بالقطع الجمع بين صفتي القاضي وعضو الحزب السياسي؟ بل هل تستمر صفة القاضي مع الشخص ولو بعد إقالته وانتمائه لحزب سياسي؟
ظهرت في العراق بعد الاحتلال، انتماءات لقضاة لأحزاب سياسية وترشيحهم لمجلس النواب ضمن قوائم وكتل سياسية مما يجرح مكانة القاضي، ولا اعرف من اين جاءت فذلكة اعطاء القاضي المرشح للانتخابات أجازه اجبارية وبعدها اذا فشل في الانتخابات يعود الى عمله، واني اسال أي حيادية تبقى لديه وهو بترشيحه لصالح جهة حزبية قد انهت حيادتيه، وكيف نضمن من القاضي المرشح الخاسر ان يكون عادلا في احكامه ولا يميل باتجاه تحقيق رغبات وطلبات كتلته او حزبه، وكيف العمل اذا نظر قضية يكون احد طرفيها رئيس كتلته او احد قياديها وعند ذلك نحتاج الى تعديل مواد تنحي القاضي، اظن ان الامر يحتاج الى التوقف عن هذه الترشيحات ومنعها؛ لان ذلك يؤثر على سير العدالة الا في حالة واحدة ان يعزل القاض من وظيفته ولا يرجع لها نهائيا حتى في حالة خسارته، وقد لاحظنا كيف تصرف قاضي مرشح للانتخابات وقام بفعل شائن عندما اخذ يوزع سندات اراضي لغرض استمالة الناخبين، وكان على القاضي المحترم ان ينأى بنفسه عن مثل هذه المنزلقات، لما يترتب عليها من مساوئ تمس مكانة القضاة وحقوق المواطنين وحسن سير العدالة، اذ كيف يعقل أن يساهم قاض في اصدار الأحكام ثم بعدها يرشح على قائمة حزب سياسي وبعد ان يخسر يعود للمؤسسة القضائية، ان ذلك يمس باستقرار الوضع المهني للقضاة مما يؤثر سلبا على عملهم ومردوديتهم وعدالتهم .
ان عمل القاضي في الشريط الذي ظهر اعلاميا، عمل مخالف للقانون إذا صدر من شخص عادي فما بالنا عندما يصدر من قاضي، فتلك كارثة قضائية يجب التصدي لها لان في ذلك اساءة للقضاء العراقي الشامخ، الذي عودنا غالبا على منتوج قضائي فريد يتضمن حلولا لإشكاليات قانونية، وتكريسا لحقوق أساسية.
الشعوب المتحضرة تحترم قضاءها، ويظهر جليا على أن القضاء لا يجب أن يكون محط ضغوط، لا سياسية ولا اقتصادية أو اجتماعية تؤثر بذلك على تطبيق القانون بعدالة وعلى جودة الأحكام الصادرة عنه، وعن جودة الاجتهادات القضائية.
يلاحظ من خلال العمل القضائي أن القاضي العراقي كثيرا منه بالذات الجزائي منه والدستوري خاضع خضوعا غير مرغوب فيه للسلطة التنفيذية، ومن الملامح الأساسية للدولة التسلطية خضوع قضاتها لسلطتها السياسية، من ثم فإنه لا يمكن الفصل بين الديموقراطية واستقلال القضاء عن السلطة السياسية.
وهناك اوامر قبض عديدة تصدر على قيادات امنية واخرى سياسية لم يتم تنفيذها وتلك كارثة تجعل العدالة في مهب الريح، لأن تنفيذ المقررات القضائية هو الأمر الأهم في المسطرة القضائية، وعدم التنفيذ يفقد القضاء هيبته وسلطته، وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ” لا ينفع التكلم بحق لا نفاد له “، فما جدوى المقرر القضائي إن لم ينفد على ارض الواقع، ما يؤدي إلى إشكال حقيقي في مسألة استقلال القضاء.
فالدولة العراقية غالبا تتعامل مع القضاء بمنطق المهنة التابعة للحكومة كتجني أساسي للسلطة التنفيذية، وهذا أمر غير صائب يؤدي إلى جعل القضاء في يد الحكومة وبذلك يقضي على كل أمل في تحقيق دولة الحق بالقانون.
أن القضاء يعاني من مجموعة من المشاكل التي تعيق استقلالية سلطته.
ان للقضاة مرتبة سامية فعضوا على هذه المرتبة السامية بالنواجذ، وابقوا متمسكين بها يا قضاتنا الاجلاء بالأيدي والسواعد، ولا يغرنكم ما قد يقال لكم من أن دستور العراق الجديد أصبح يعتبر القضاء سلطة. فإن هذه السلطة كانت لكم منذ كنتم، ولم تكن مواد من الدستور بالنسبة لها إلا مجرد معلن وكاشف، ولم تكن لها بمنشئ، كما هو معلوم عند كل دارس للقانون وعارف، ولا يغوينكم أن الدستور أعطاكم الحق في التعبير لان هذا التعبير مقرون بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية، وقد سمح لكم الدستور بحق الانخراط في الجمعيات أو إنشاء جمعيات مهنية مع موجبات وضرورات جوهرية باحترام واجبات التجرد واستقلال القضاء وطبقا للشروط المنصوص عليها في القانون.
فإن هذا الحق مقصور على الانخراط في الجمعيات وفي إنشائها، وليس يتعداه إلى الانخراط في أحزاب سياسية أو الانتماء إلى منظمات نقابية، كما جاءت توضح ذلك نصوص ومقتضيات استقلالية القضاء.
ولذلك هناك ضرورة لقصر نشاط القضاة على ما هو عمل جمعوي صرف؛ فإنه أدعى إلى الوحدة والائتلاف، والانصراف عن كل ما هو سياسي ونقابي؛ فإنه أصل كل فرقة واختلاف، على الرغم من هناك محذورات في الانتماء لتلك الجمعيات والنقابات ويجب التفكر والتدبر والتأمل بتصرفات وفعال الجمعيات التي حولها بعض المنتسبين إليها إلى نقابات تدعو إلى الفرقة والاختلاف والكراهية والإضراب والتظاهر والاحتجاج، في الشوارع والساحات والفجاج، وكيف كان عاقبتها، وما جلبوه وتسببوا فيه من مشاكل ومغارم.
كل ذلك بسبب أنهم لم يصغوا إلى صوت العقل والحكمة والمنطق والقانون في المطالبة والدفاع عن هذه المكاسب، ولم يسعوا للذود بالتي هي أحسن عن هذه المطالب.
ويحذونا الامل من قضاتنا بعدم الانتساب قطعيا ونهائيا للأحزاب والابتعاد عن الانتساب للجمعيات والنقابات والاتحادات ذات الصبغة السياسية او ذات الخلفيات المشبوهة والانتماء الى المنتديات والمشاركة بالمؤتمرات والندوات واللقاءات التي يكون اساس عملها الحوار الهادئ والذي تتقارع فيه الحجة بالحجة ويتبارى فيه البرهان مع البرهان سبيلا لتحقيق المطالب، وطريقا لنيل المزيد من المكاسب، وما ذلك علينا بعزيز إذا ما خلصت النيات وصفت الطويات، ولم ندع في بيتنا ثقبا تتسرب إلينا منه الأهواء والنزوات.
ولتحرير القضاة أيضا من الحصار الفظيع الذي كان مفروضا عليهم بتكميم أفواههم ومنعهم من التعبير عن آرائهم نرى ان يعدل الدستور او ان ينص مشروع قانون مجلس القضاء الاعلى الجديد على مادة نصها: “للقضاة الحق في حرية التعبير مما يتلاءم مع واجب التحفظ والاخلاقيات القضائية، ويمكن للقضاة الانخراط في جمعيات او انشاء جمعيات مهنية مع احترام واجبات التجرد واستقلال القضاء وطبقا للشروط المنصوص عليها في القانون .”
وأخيرا فانه لا يمكن أن نتوخى اصلاحا لمنظومة العدالة دون التنزيل الديمقراطي للدستور ودون اشراك المشتغلين فيه المتشبعين بمبادئ استقلال السلطة القضائية الحقة.
من اجمل الاقوال وابلغها قول الامام علي عليه السلام
((من ينصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه))
اين سيرهم ياصاحب السيرة الخالدة، سيدي العراق يصيح اين انت
سيدي كثيرون هم من يدعون السير على خطاك لكن اين هم الحاكمون بحكمك ؟؟
بقيت قانون عدل ورسالة تسامح وايقونة عطاء لكل شعوب الانسانية.