” ما الجدوى مما تكتبه أنت وغيرك؟ أليس في الصمت السلامة والفائدة ، وفي القول شقاء النفس وتعب البال ؟ فلمَ لاتترك الكتابة في السياسة والفكر، وتنشغل في تأليف القصائد والقصص ؟ .
تلك هي خلاصة ما أرسله لي أحد الأصدقاء ذات يوم ، وها أنا أخذ بما قاله ،مستلهماً الفكرة من نصّ قرأته منذ سنوات خلت ، لأقيم حواراً إفتراضياً بين أبي العلاء المعرّي وأبي حيّان التوحيدي ،يعلن أنه ليس بريئاً عمّا مايجري في العراق ولا محايداً كذلك، خاصّة فيما يعانيه الكثير من المبدعين في ظلّ الكثير من السياسيين ، بعد أن بقي التنوّع في الرأي ، يفسد للود كلّ قضية.
أبو حيان مخاطباً نفسه:
إيه يا أخ الهمّ والكآبة ، إلى أين تروم الذهاب وقد خذلتك الدروب وأنكرتك المقاصد ، لا باب يفتح لك ولا صديق ترجو مودته ، وها أنت وحدك تحتضن الوحشة زاداً لأسفار أنهكت روحك وعافتها نفسك، فلا منصب تأمل نواله ، ولا حظوة عند حزب أو زعيم -رغم كثرتهم – ورغم ما أنفقته من سني عمرك وما أرهقته من حدّ بصرك في البحث والنسخ والتأليف الذي صار طعاماً للنار ، إيه أبا حيان أتنتهي كما انتهتْ كتبك التي لم ينزلها أحد بما تستحقه ، من تقصد الساعة يا توحيدي من ؟ ليس لك والله إلا شيخ الفلاسفة وإمام المبصرين أبي العلاء ، هيا يا توحيدي ، هيا إلى ذلك الذي عوّضه الله ثاقب البصيرة عن نعمة البصر فرأى ما لم يره الآخرون هيا ، فأني أظنه ليس بخاذلك .
– صوت من الداخل : من الطارق ؟
– أنا التوحيدي ، أيها الشائع ذكره المبجل أسمه بين ثراء حجّته وحسن سيرته .
– علي أبن محمد ، مرحباً بك ، أية ريح طيبة حملتك إلينا .
– عليك السلام إمام المعرّة ، رضيت الزمان ونلت الرضا ، أبصرتَ إذ عُمي المبصرون فإنما العماء عماء العقول .
– سلمتَ يا توحيدي ، مالي أراك كثير الشكوى من الدنيا وأهلها ، عاتباً غاضباً ، أبكيتَ دهرك مما أصابك ،وقلبتَ عينيك مما أصابني ، جبتَ أرض العراق طولاً وعرضا ً وسرّحتُ قدميك نحو عتبة هذا ودروب ذاك ، هلّا ارتدعتَ أخا العبقرية وسيّد الكلام – أنت أكبر من أن تنام على وعود الساسة وأجلّ من أن يبخس ذكرك ، كن كما يجدر بك أن تكون ، ولا ترتحل وشمسهم تأذن بالمغيب .
– آه يا جليل القدر ، لا تنكيء جراحاً ما برئت بعد وتذكرني بليل الرحيل ، فإلى مدن العشق أسلمت قلبي ، إلى حلبات يتلألأ الفجر فيها ،إلى العبق الشذي لبابل والعالقين بأسوارها، لذلك الندى يقبّل ثغر الأديم النقي ، للنور مغتسلاً بدماء المخلصين ، للحاملين ضياء الحقيقة ، جعلت ُالروح تهبط عند أبن سينا وفيض الفارابي وحكمة سقراط وإباء الحسين .
– أوتحرق كتبك يا توحيدي ؟ كيف تنحر ما أهرقتَ أيامك في جمعه وطويتَ فيه صحائف عمرك ؟ أيأس من الناس أم حنق على الزمن ؟ والله ما أراك فعلت صواباً في ما أقدمت عليه .
– : على رسلك شيخي الجليل ، والله ما فعلت هذا بطراً ولا حمقاً ، لكن العلم يا صاحبي إنما يراد للعمل ،والعمل لستر الحال، فإن كان العلم قاصراً عن العمل ، صار وبالاً على صاحبه .
– المعرّي : مهلاُ يا أبن الموحّد ، لا تنفعل رعاك الله .
– لقد جمعتُ أكثرها لمنفعة الناس ولطلب المنزلة فيهم ولعقد الرياسة بينهم ، فحرمتُ من ذلك كله ، ومما شحذ العزم على إحراقها ورفع الحجاب عنها ، إني إفتقدّتُ خِلاً نجيباً وصديقاً حبيباً وصاحباً قريبا وقارئاً أديباً ، فشقّ عليّ أن أدع كتبي لقوم يتلاعبون بها ويدنّسون مقصدي إذا نظروا فيها ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفّحوها، وكيف أتركها لأناس جاورتهم سنين طوال ، فما صحّ لي من أحدهم وداد ولا ظهر لي من بينهم حافظ عهد ، وقد اضطررت إلى أكل الخضر في الغربة والى التكفف عند الخاصة والعامة والى ما لا يحسن بالحرّ أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحبه الألم ، وبعد ، فأنا الذي خاطبه يوماً ” قومس ” الفيلسوف شارحاً سوء حاله : ما ظننت أن الدنيا ونكدها تبلغ من إنسان ما بلغته مني ، إن قصدت دجلة لأغتسل فيها نضب ماؤها ، وإن خرجت إلى القفار لأتيمم صار رملها صلداً أملس ، فأجبته : ما أعرف لك شريكاً فيما أنت عليه وتتقلب فيه سواي ، أستولي عليّ الحرمان وتمكّن مني نكد الزمان إلى الحد الذي حرمني الرزق رغم صحّة ريشتي وإتقان صنعتي ووضوح فكرتي وحسن تأليفي وسلامة نسخي من التسخيف والتحريف ، بمثل ما يسترزق البليد الذي ينسخ فيمسخ ويؤلف فيسخّف ويتكلم كذباً ويعمل رياء ، فلمن تريدني أن أتركها ؟
– أبو العلاء : ألست تراني رهين المحبسين يا صديقي المشاكس ، بل يا شبيهي العنيد ، تطرق باب الساسة الدهماء وتهرق ماء جبهتك راجياً ، كيف ترضى لإباء نفسك هذا المقام ، وأنت الأديب البليغ العالم الأريب ؟ ألست تراني معتزل الجانبين وأنا في مقامي وسجني أبهرج حلمي وأدعو عرائس الشعر تقبل طائعة راضية تهز قلائدها أكفّ الجمال وأرقب كيف الثريا تريد عناق الهلال وأرى المدائن الساحرات ترفل فوق احمرار الغروب وفوق احمرار الشروق وخففتُ الوطء فوق هذا الثرى لعلّ فيه رفات العباد .
– أبو حيان : على رسلك إمام المعرة ، يا فارس السجن والجنّة المشتهاة برسالة غفرانك ، ليتني أهبك عيني لتبصر فيها كم بعدتَ عن الحق فيما أتخذته لك مذهباً ، تركت الجمال قريباً قصّياً يعانق أطياف شعرك وأرسلت رؤاك حلماً وفكراً ، إخترت أن لا تتذوق اللحم طيرها وشاتها وأسماكها شياً وقلياً ، وقد أذن الله للخلق أن ينكحوا وأن يذبحوا ، اعتزلت الساسة والوزراء وقد لحق المتنبي بهم ، ثم رحت تظهر النقائص فيما ذهبت فيه المذاهب وتناقض نفسك ، فحيناً توحّد ربّك بخشية عابد طائع ، وحيناً تضلّ ضلالاَ بعيداً .
– المعرّي : مهلاَ يا توحيدي مهلاً ، فماذا جنيت لتلسعني بسياط قولك ؟ أتراني أبن عبّاد يمنع عنك جزيل العطاء ؟ أم أبن العميد يحسبك صغيراً يأنف من تقديمك بحضرته ؟ فأنا الرهين أردتَ من الجنّة ألا أتجنى ومن اللحم ما عافته نفسي لأن لي في العشب والخبز والتمر والتين ما يكتفي منه بدني ، أما النساء فذلك شأن له عجباً إذ أكتفي فيهن من تزور في المنام مضاجعي ، فمرحى لك ، صديق الكآبة هون على نفسك وكفاك لوماً، لقد عشت دنياك يوماً فيوما وعاماً فعاما ، ترى الناس والأرض وماعليها من جميل اللون والبر والبحر تأكل شفيفاً وتعدو خفيفاً وتلعب طفلا وتبصر كهلاً وتصحب ما طاب زوجاً وملك يمين ، وأما أخوك شقيّ المعرّة هذا الذي إلى شفا القبر والهاوية فما ذاق حلواً ولا قرّ عيناً ولا تحلّى من مباهج الكون طراً ولا رؤية بل سماعاً ، فهون عليك وأشكر ربك على ما أعطيت ولا تبخس حظك من الدنيا .
– أبو حيان : عذرا شيخ المعرة ، فما أنا من الجاحدين ولا بما أو تيت من اليائسين إنما قمت بما قمت به من حرقي لكتبي ولست بالأول من الفاعلين ، ألم يفعلها أبو عمرو بن العلاء وكان من كبار العلماء مع زهد طاهر وورع معروف ، دفن كتبه في بطن الأرض ولم يظهر لها أثر ،وهذا داوود الطائي وكان من الأخيار زهدا وفقهاً وعبادة حتى لقب بتاج الفقهاء طرح كتبه في البحر وصار يناجيها بالقول : نعم الدليل كنتِ والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وخمول ، وهذا سفيان الثوري مزّق ألف جزء وطيرها في الريح وقال : ليتني قُطّعتُ من هنا وها هنا ولم أكتب حرفاً ، وهذا أبو سعيد السيراني شيخ العلماء قال لولده : قد تركت لك هذه الكتب فإذا رأيتها تخذلك ، فأطرها للنار ، وغيرهم كثر يا صاحبي كبير القدر .
– المعرّي : لقد أختلف فيك الناس فمنهم من رآك أحد أمراء البيان وسيداً من أسياد النثر ، ومنهم من رآك متفلسفاً أو جامعاً للفلسفة أما أنك جامع للمتناقضات فهذا واضح في حياتك وفكرك ، فأنت متفلسف وتهاجم الفلسفة ، متصوف وفقيه عقلاني وتهاجم المتكلمين تنادي، بفصل الدين عن الفلسفة وتقول بتكاملهما ، شديد الإيمان صحيح العقيدة ، لكنك متّهم بالإلحاد والزندقة بسبب آرائك التي بلغت حد الجرأة ، تارة أنت من المتكلمين ومنهجهم الجدل، وطوراً من الفلاسفة ومنهجهم البرهان ، وتارة أنت صوفي إلى أبعد الحدود متشوقاً لملاقاة ربه ومنهج الصوفية هو القلب والوجدان والذوق ، وأنت في كل ذلك رهين الغربتين ، غربتك عن عالمك الخارجي وغربتك عن نفسك ، أردت الاتحاد بالجزئي فأنفصلت عن الكلّي ثم طلبت الكلّي فما أدركته وأنفصلت عن ِالأجزاء ، هلاّ رحمتَ نفسك ناشدتك الله فأن لها حقّ عليك .
– التوحيدي : لا تكثر من لومك يا أخا الروح ، فوالله لقد أثقلتَ وجاوزتَ ، فما أنا من كلّ ذلك قد فهمت ، إنما أردتُ أن أعبّر عن ما يعتلج بفكري مستخدماً ، الأدب فصحّ علي لقب المتفلسف ، ودعوت إلى ربط الأخلاق بالعمل والى جعل الإنسان القضية الأسمى في الحياة ، شهدت من الفوضى والحزن والفساد في العراق السابق كما هو في العراق الجديد ، ليس للعدالة فيه موطئ قدم ،يعجز فيه العالم المقتدر عن دفع أجرة منزله ، في حين ينال السفها ء والأغبياء والفاسدين والتابعين، الحظوة والرياسة والمال ، فشكوتُ الدنيا وأحوالها وعجبتُ من تبدّل أطوارها ونظرتُ في أمرها فما وجدتُ إلا الأخلاق والقيم والصداقة بين الناس حلاً لمشاكلها وطريقاً للوصول إلى السعادة فيها فمجدّتُ الأخلاق واعتبرتُ أن صدقيتها تكمن في المطابقة بين الفعل والفكر والعمل والرؤية ، أما الصداقة فهي مساهمة للتضامن الإنساني نحو الوجود وتجاه أزمة الإنسان فيه ، لكنها أمر بعيد المنال صعب التحقق بسبب ما جبل عليه البشر ، أن على الإنسان أن يبحث عن سعادته في الدنيا والآخرة وحيداً لأن دون سعادة البشر ، التباين في درجة العقول والتفاوت في المنزلة والعيش ، وذلك ليس إرتداداً مني عن قولي : أجدني وإياك كالجسم الواحد إذا خصّ عضواً من ألم تداعى سائره فعافاني الله بعافيتك ، بل هو تنمية للخاصّ في إطار العام وتنقية للجزء في إطار الكل ، وقد صنّفتُ السعادة في دائرتين : دنيوية ترتبط بالحسّ، وأخروية ترتبط بالنفس ، وحيث وجدت السعادة تصيب البعض وتخطيء البعض، أدركتُ صعوبة الخلاص في الحياة فعدتُ إلى المطلق علني أجد عنده تعويضاً عما فاتني في الحياة الدنيا 0
– حاشا أن ألومك يا صاح إنما هذا رأيك وتلك رؤيتك ، الست أنت داعية حوار تقارع الحجة فيه الحجة والتساؤل يقابله التساؤل ، الست القائل ( اصقلوها –أي النفس – وأجلوا الصدأ عنها تعود قابلة لودائع الخير ، فأنها إذا صدئت لم ينتفع بها ، حياك الله يا أبن الموحد وجعل آخرتك خيراً من دنياك
– التوحيدي : أستميحك عذراً إمام المعرة وشيخ القوافي النائيات على غيرك اللائذات بظلك ، من ساد بالعقل يمشي على هديه في دامس الليل .
– أبو العلاء:ـ يا أخا المحبّة والشجن المستديم ، إعذرني أنت مما قصّرتُ فيه ، ولك عذري عمّا أتيته ، لكن ايّاك والصمت في زمن الكلام .