من يقرأ هذه العبارة يتصور أن علياً(ع) قالها لساناً للمسكين واليتيم والأسير وهو يطعمهم، والحق أن علياً(ع) لم يتلفظ بها بل حكاها عمله وبينها ربه سبحانه بكلماته المجيدة ليبين للناس أن الذي يريد أن يكون رأساً في الناس لابد له أن يكون كما كان عليٌ(ع)، مع الانتباه على أن أمير المؤمنين(ع) كان يعمل على وفق المنظومة الإلهية الفطرية التي فطر اللهُ سبحانه الناسَ عليها، ولم يكن غايته من الإطعام أن يكون رأساً في الناس، بل صار رأساً بعمله وجده واجتهاده وصبره.
الهدف من هذه المقدمة البسيطة والمهمة أيضاً هو: إن من يتصدى إلى قيادة الناس عليه أن يكون أباً حقيقياً ينام عياله ولا ينام هو، بل لا تهوّم عيناه فتأخذه السنة، ولست أتحدث هنا عن النوم البايولوجي، بل نوم الغفلة وسنتها الذي يجنح بالسفينة ويجعلها تشفا على الغرق إذا ما هومت عينا ملاحها. ولذا من يتنبه على موقف الدين الإلهي من حاكمية الناس ويكون منصفاً لا يراه موقفا عدائيا مطلقا، بل يراه موقف المشفق الرحيم الذي يؤلمه ما يراه من نهاية مأساوية مهلكة لسلوك هذا السبيل الذي غطى نهايته المخزية بمنعرجات ومنعطفات والتواءات كي لا يراها السالك بل يُفاجأ بها وهي تحت قدميه ولا سبيل له للتراجع أو الدوران!!!
إن من يبتليه الله سبحانه بدور الأبوة لابد له من قراءة علي(ع) قراءة عملية، نعم هي قراءة شاقة ومجهدة وصعبة جداً، ولكن لا ضير من أن يبرهن المبتلى أنه سائر على السبيل ذاته وإن كان لا يبلغ شأو السابق، وهنا نتحدث عمن يبتليه الله سبحانه، فما بالك بمن يمد عنقه لها ويتوسل الوسائل ويشتري الابتلاء ويتقدم الصفوف ليعلن من نفسه أباً افتراضيا واعتبارياً للناس، والرحم الذي ولده هو أوهام الناس التي جال بها مخاضها في صناديق الاقتراع تلك الصناديق التي هي بطن شيطاني لا يلد إلا جائراً ظالما؟؟!!
لعل غاية ما تنتجه حاكمية الناس والمتمثلة في زماننا بالديمقراطية هو وهم أبٍ وليس اباً حقيقياً، ولذلك تلحظون أنها عمدت على مأسسة الأبوة وتوزيع مهامها على سلطات ثلاث، كل سلطة هي رأس بذاته، فالديمقراطية تخلق مجتمعات برؤوس متعددة، وهنا يبدأ صراع الرؤوس وفي ساحة الصراع يكون انتاج الفساد، ولقد قالها الله جلت قدرته لعباده من أول يوم كلفهم بها، وظهرت جلية للعباد في رسالته الخاتمة، قال تعالى{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}(الأنبياء/22)، الحكمة بسيطة واضحة، ولعل المثل الذي يتداوله الناس ولا يعملون به ـ للأسف ـ هو من رشحات الآية الكريمة إذ يقول: السفينة التي يكثر ملاحيها تغرق!!!
لذا فالدعوة إلى حاكمية الله هي دعوة للأبوة الحقيقية، دعوة للأب الفعلي المنصب من الأب الحق سبحانه، من الرب الحق سبحانه، من المؤدب الحقيقي، قال النبي(ص): أدبني ربي فأحسن تأديبي، ولذلك كان النبي الأكرم(ص) مثالا حقيقيا للأبوة الصادقة، فكان اباً رحيما شفيقا، وصفه الحق سبحانه بقوله {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة/128)، وهكذا ينبغي أن يكون الأب في عياله، وهذا برهان ساطع على أن حاكمية الله تتناغم مع أصل البناء البشري من أصغر وحدة اجتماعية إلى أعلاها من الأسرة إلى الدولة، كلها وحدة واحدة ونسيج واحد محبوك، أما حاكمية الناس فهي تشبه ـ في أعلى درجات حسن الظن بها ـ العاقر الذي لا أبناء له فيهرع ليتبنى طفلا أو أطفالا يعمل على تشكيل اسرة بهم، ولكنه لا يمكن أن يشعر ابداً أنهم أولاده وهو أبوهم، بل غاية ما يمكن أن يتحصله هو أنه بنى مؤسسة للأسرة التي يمكن أن يتداعى بناؤها في اي وقت، وهنا ينبغي عليّ التنويه إلى أن ضرب المثل هو لتقريب الصورة من فهم المتلقي حسب، فلا الأبناء يشعرون بينهم بأخوة حقيقية، ولا يشعرون اتجاه الاب الافتراضي ببنوة حقيقية، وكذلك الاب ليس في قلبه هذا الشيء، ولكنه عمد إلى تأسيس هكذا أسرة ليقهر العقم الذي أشعره بكآبة الوحدة ووحشتها حسب.
وهنا يتبين لكل ذي عينين الفارق الواضح بين الحاكمين في الحكومتين، فالحاكم الالهي يقول: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ـ وقوله هذا ليس لفظ لسان بل عمل تظهر تفاصيله على أرض الواقع ـ في حين أن الحاكم المنتخب من الناس فهو يعلي صوته ويصرخ إننا عملنا وفعلنا وأنشأنا وبيننا وو…. الخ تلك القائمة التي تبدأ ولا تنتهي ليقول للناس الذين انتخبوه خادماً لهم: عليكم أن تشكروا لي عملي ـ إن كان له عمل ـ في كل نفس تتنفسونه، فانا اريد منكم جزاء وشكورا، يقولها بكل جارحة فيه وإن موّه علينا وقال بجارحة اللسان خلافها!!!
ولذلك ترى في حاكمية الناس الشعب يعمل والصيت للحاكم إذ يخرج على الشعب ليقول: قاتلنا وحررنا وبنينا و….. وهو يرتدي بزة لم يمر بها رذاذ الغبار فضلا عن الغبار ذاته، بل حاول بعضهم أن يأخذ صورا ببزة العمل ليوهم الناس أنه عامل ويطابق قوله فعله، ليعلو صوته: اريد منكم الجزاء والشكور، وعليكم أن تذكروا لي أني فعلت كذا وفعلت كذا، يعمل القليل بل قد لا يعمل ويحمل الناس منية أوهامه، والناس تعمل وتجهد ولا يشكر لها صنيعها، فهو يرى أن ما يقوم به الشعب واجب عليه، وما يقوم به هو فضل عظيم منه، وهذا تماما خلاف ما في حاكمية الله، فالحاكم الالهي يرى أن عمله واجب عليه بل هو يسأل الله أن يغفر له تقصيره ليل نهار، ودائم الشكر والثناء لصنيع الشعب وعمله، وكثير الغض عن أخطائه وإساءاته، لذا فعلى العاقل أن يختار.