23 ديسمبر، 2024 3:19 ص

لا نحتاج لجيوش

لا نحتاج لجيوش

أيُّ نظام حكمٍ (أزعر) باللبناني، أو(شبيح) بالسوري، أو(شلاتي) بالعراقي، يصاب فور اقتناصه السلطة بلوثة حب الخلود وعشق القوة العسكرية والأمنية والمخابراتية، ثم يسيطر عليه وهمُ قدرتها، وحدها، وكليا، على إخراس المنافسين والمعارضين، وتحصين مقامه السامي، وتوريث سلطانه لأحفاد أحفاده، إلى أبد الآبدين.
وفي بساطة ومهارة يختار (حاجة ملحة) وطنية عليا تمس عصب المواطن ليبرر بها سياسة إفقار شعبه وإنفاق ثروات الوطن على جيوشه وقوات أمنه ومخابراته. وما أكثر ما منع السفر وقنن الاستيراد واحتكر الخدمات والأسواق وضيق الحريات وشدد الرقابة على الإبداع والمبدعين بذريعة لا صوت يعلو على صوت المعركة، أو لحماية الأمن الاجتماعي، أو لتجهيز القوات المسلحة لحرب التحرير القادمة لا ريب فيها ولكن ذات يوم.
ولكنه لم يترك وسيلة لشراء ولاء ضباط جيوشه وعشيرته ومسقط رأسه إلا وفتح لهم أبوابها على مصاريعها، وأطلق العنان لمخابراته وأجهزة أمنه الأخرى لتفعل ما تشاء بخصوم، أو من يُحتمل أن يكونوا من الخصوم. 
بلا رادع ولا مانع، ما داموا هم الخصمَ والحكم، وهم، وحدهم، الوطن، ووحدهم المواطنين.
خذوا الجيش العراقي مثالا. ألم يفتتح رئيس أركانه بكر صدقي مسلسل الانقلابات العسكرية في العالم العربي، ويعلمْ من جاء بعده من قادة جيوش عربية أخرى كثيرة كيف يخطط لانقلاب، وكيف ينفذه بنجاح؟
وعلى امتداد تاريخ الجيش العراقي (الباسل) مارس الضباط وحتى الجنود أوسخ ألوان الهيمنة والتعدي على حقوق الناس وكراماتهم وأرزاقهم، كذلك. وبدون الإغراق في تعداد أسماء القادة العسكريين المغامرين الذين احترفوا مهنة الانقلابات وأثروا بها وخلفوا لأبنائهم وأحفادهم أموالا (قارونية) طائلة، حتى وهم يسقطون تحت جنازير دبابة أخرى يقودها مغامرون مثله متعطشون للسلطة واستغلال النفوذ.
واستعرضوا معي مقدار الخراب الذي حل بالوطن، من يوم تأسيس الدولة العراقية عام 1921، على أيدي ضباط أميين وجهلة لم يقرأ أحدهم صفحة وفيات في جريدة يعينه القائد المفدى وزيرا للصحة أو الثقافة أو العدل أو المالية أو البلديات.
كم من ضابط عسكري أحمق وغبي قاد الإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح والموسيقى والغناء؟
وفي تاريخه الطويل لم ينتصر الجيش العراقي على عدو.
فلولا السلاح الأمريكي وطائرات الأواكس، ولولا أموال الخليج، ولولا المتطوعون العرب بعشرات الآلاف لما فشل الخميني في احتلال العراق، في ثماني سنوات من القتل والتدمير وخراب البيوت. ورغم تلك الفضيحة المجلجلة تغنى الجيش العراقي (الباسل) بالنصر المؤزر على الفرس (المجوس) ومنح القائد الضرورة مئات من ضباطه أوسمة شجاعة بيعت بعد سقوط النظام في أسواق الخردة والمتروكات ببلاش.
ثم قام الجيش (الباسل) بغزو الكويت، بغباء وعناد وغرور وهمجية وعنجهية، ودفع المواطنون العراقيون الأبرياء، كلهم، وجيرانُهم أجمعين أثمانا باهضة ما زالت تنقض ظهورهم إلى اليوم.
ولم ولن تغيب عن البال أشلاء دباباته ومصفحاته وطائراته المبعثرة على الرمال، وجثث محترقة لآلاف الجنود والضباط في حرب تحرير الكويت.
قدروا معي كم أنفق صدام حسين على جيوشه المليونية من أموال الشعب الجائع وثرواته الطائلة؟ وتساءلوا معي، لو أنفق نصفها على إعمار الوطن وبناء المواطن أما كان العراق اليوم أم الدول التي يحسدها الإماراتيون والسعوديون والأمريكان على أبراجها الشاهقة ومنازلها الباذخة وإنجازاتها العلمية والثقافية والاقتصادية الباهرة؟.
ولو فعل ذلك، ولو ضرب من البداية على أيدي ولديه وأعمامهما وأخوالهما وعلى أيدي قادة جيوشه وحرسه الجمهوري وفدائييه ومنعهم من الغش والسرقة واستغلال النفوذ أما كان حارب دفاعا عنه مدنيون في كل مدينة وقرية أكثر من العسكريين، وأما كانت أمريكا بوش ورامسفيلد وأحمد الجلبي تعد إلى العشرة قبل غزوه وإسقاطه في ساعات؟.
 أما ما غطى على هزائم جيوش (السلف) فهي هزائم جيوش (الخلف) نوري المالكي الذي أنشأ جيشا مليونيا عرمرما من الجهلة والانتهازيين والطائفيين المتعطشين للمال والجنس والسلطة، وأهدر عليه أموالا تجعل من الصومال أو جيبوتي سويسرا أو السويد جنة من جنان الله الوارفة.
وها قد سقط هو وجيشه وابنه في أيام، وتحول إلى لطخة سوداء في تاريخ العراق والمنطقة، وقد ينتهي به الحال، لو عدل العبادي وعقل، على أعواد مشنقة، تماما كما فعل هو بصدام في أول أيام عيد الأضحى قبل سنوات.
وها هو العراق اليوم بلا جيوش سوى جيوش المليشيات التي لا تقل بشاعة وهمجية وعدوانية عن داعش والنصرة. بلا سيادة، ولا كرامة. يتوسل رئيس وزرائه الجديد جيوش العشائر وهمم الدول، كبيرها وصغيرها، لتهب لنجدته ولتعينه على عصابات من قتلة جهلة ومارقين يذبحون بالسكاكين، ويهدمون الأديرة والكنائس والمساجد والقبور، وينكحون بنات القرى التي يستبيحونها، ويستعبدون أهلها الآمنين.
ورغم كل ما جرى ويجري في العراق كله من خيبة وتنكيس رؤوس ها هو السيد الرئيس الجديد يدعو جيوش الدول التي تصول وتجول في سماء العراق دون حسيب ولا رقيب إلى احترام سيادة الوطن. ولا أحد يدري عن أية سيادة يتحدث الرئيس. وكأن الوطن لم يفقد سيادته، على يد قاسم سليماني، من زمان.
هذا عن العراق وجيوشه. أما حال الجيش المصري العظيم فليس أفضل. فقد هزم في حرب الأيام الستة 1956، ثم في حرب 1973 شر هزيمة؟ ألم يمرغ موشي دايان ومناحم بيغن في الأولى، وغولدا مائير في الثانية أنفه بالتراب، وتتمزق عرباته وطائراته ودباباته، وتنتثر أجزاؤها وأشلاء جنوده وضباطه على الرمال؟ 
ولا تقل حكاية الجيش السوري سوادا عن غيره من الجيوش العربية الباسلة. فباسم الصمود والتصدي وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر جعل الأسد (الأب) والأسد (الأبن) من سوريا بقرة لا تعصر حليبها كله إلا لـ (حماة الديار) وحدهم، دون شريك.
ولولا إيران وروسيا وحزب الله لوجدنا المئات، وربما الآلاف، من قادة الجيش (العربي) السوري أسرى ورهائن، أو هاربين يتسكعون في شوارع بيروت وبغداد والقاهرة، منهم سائق التكسي ومنهم بياع العلكة والمناديل الورقية، أو سكان مخيمات لاجئين، مثل مئات الآلاف من السوريين المهجرين اليوم.
والجيش اليمني هو الآخر سقط ببساطة تحت أقدام مسلحين حفاة عراة لا خبرة لها في قتال تمكنوا من احتلال العاصمة وذبح الكثيرين من الضباط والجنود اليمنيين وضيوفهم البعثيين العراقيين الكبار.
ومثل غيره لم يكن حظ جيش الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى بأفضل من حظوظ أشقائه الآخرين. فقد تحدته في أيام سواعد شبان خرجوا من مدارسهم الثانوية ليسقطوا دولة الأخ العقيد ببساطة ويمُدوا جثة ملك ملوك أفريقيا للمتفرجين ببلاش.
ثم يُهزم جيش الدولة الليبية الجديدة مرة أخرى أمام معممين أصحاب لحى مصبوغة بالحناء. وهاهو يتلقى الإهانات والخسائر كل يوم بسلاح المشير البشير وأموال الأمبراطورية القطرية الرؤوم.
والجيش السوداني هو الآخر خسر جميع معاركه أمام المعارضين وأبناء الجنوب، وهاهو يتابع مسيرة هزائمه المتتالية التي لا تسر.
ولا نعرف هل ستصمد أم ستُهزم كغيرها، في سويعات، جيوش عربية مترفة متخمة بالسلاح والخبراء الأجانب لم تخض في كل حياتها سوى حروب صغيرة عابرة ضد مواطنيها العزل من أي سلاح.
بصدق وصراحة. لا تحتاج الشعوب إلى جيوش من نوع جيوشنا (الباسلة)، ولا تنفق عليها دراهم لا دنانير ولا دولارات، إذا كانت عواقبها كما هي عندنا مخجلة ومعيبة بلا حدود.
ألم يكن فقراؤنا أحوج إلى المال الذي أنفقه صدام على مدفعه العملاق، وحافظ وبشار والعقيد والبشير وعلي عبد الله صالح على سلاحهم الكيماوي والصواريخ والبراميل المتفجرة التي لم تحفظ حتى غرف نوم قادتها الميامين!!.