لا أحد يستطيع منع الحلم عن الإنسان، لكن النكبات قد تكون المانع الأكبر للأحلام. الحلم يصبح السلاح النافذ في وجه التقهقر والسجن والانكسار.. الحلم الجماعي يتجسد بطلب حقوق الحرية والأمن، والتماهي مع الحياة الإنسانية الراقية.. والعراقيون هم أكثر شعوب الأرض تجسيداً لأحقية أن يحلموا بواقع الرفاه والأمن والمساواة والعلاقات المستقرة بينهم وبين الحاكم.
فهم يتمتعون بامتيازات التاريخ والحضارة، ورغم الانكسارات والاحتلالات الطامعة عبر التاريخ، لكن هذا الشعب ظل متمتعاً بوحدته وتماسكه. العراقيون لديهم قوافل التنوير الهائلة من الشعراء والأدباء والعلماء والمبدعين، التي تغطي مساحات كبيرة من حلمهم. والخارطة الجغرافية الغنية بالأرض تحتوي في باطنها على جميع الثروات وفي مقدمتها “النفط”، لكنهم ظلوا ومنذ أكثر من نصف قرن يعيشون أزمة العلاقة بينهم وبين الحاكم. تتصاعد تلك الأزمة وتنخفض حدتها وفق مؤثرات بعيدة عن الحلم الجمعي.. فمرة يعطي الحاكم لهم الخبز والأمن لكنه يمنع عنهم الحرية والديمقراطية بمفرداتها الجديدة والتي تحولت إلى لعبة سياسية بيد الكبار خارج الأوطان، وليست قيمة جسدتها تجارب شعوب الأرض ومن بينها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، ومرة يسعى الحاكم إلى استغلال الفرص للدخول في عالم طموحات الزعامة خارج حدود بلده الوطنية بعد استشعار وحلم رومانتيكي بأن الطريق سهلة وسالكة أمام الزعامة التاريخية، لأن مظاهر الأزمة القومية كبيرة وتوفر المبررات لظهور زعامات متماثلة في ادعاء امتلاك الحل الشامل لجميع الأزمات وفي مقدمتها التحرر من المحتل والمغتصب للأرض، وظل العراقيون أوفياء لانتمائهم العروبي، وكان لهم دورهم في مواسم اليقظة القومية الثورية خصوصاً في كل من سوريا ومصر منذ ثورة يوليو 1952 في مصر مروراً بشريط الانقلابات العسكرية في كل من العراق وسوريا. لكن الزعامات المصطفة على طابور واحد، كانت تتصارع ويتآمر بعضها على البعض وينفقون مليارات الدولارات، لم توجه لبناء المدارس والمستشفيات. ولدوافع الغرور لم يكترث هذا الحاكم من الاصطدام بالعقبات الهائلة، بل يتجاوز شارات المرور الحمراء تحت مؤثرات واهمة ثم تحصل الأزمة على دفعات.
لقد أحبط حلم العراقيين بالكثير من المفزعات، كالحرب مع إيران 1980-1988 التي رسمت مقدمات التقهقر والإحباط المفزع، والتي كانت حرباً قومية في صراع بين طموح الزعامة وانبعاث النفوذ الإمبراطوري، ومع ذلك كشفت حرب الثماني سنوات حقيقة إن العراقيين متماسكون، ولم تظهر عندهم رغم كارثة الحرب وما خلفتها من ضحايا أية علامات لصراع سني شيعي، لأن هذه اللعبة سياسية ولم تتغلغل بعد بين صفوفهم إلا بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 فتم استغلال الموروث الشعبي وتحريف الحزن المدفون في الضمير العراقي وتحويل القيم الرائعة لأهل البيت قبل ألف وأربعمائة عام لتمزيق لحمة المجتمع، وتفتيت حلمهم الجمعي.
لقد أُحبط هذا الحلم من قبل الأشقاء مرتين: الأولى في قتالهم أبناء العراق تحت غطاء طرد الجيش العراقي في مغامرة احتلال الكويت غير المبررة. والثانية عندما تم خذلانهم من قبل أشقائهم المجاورين حيث سبق للعراقيين أن وهبوا أشقاءهم قوافل الشهداء لحماية بلدهم من الاجتياح الإيراني المحتمل خلال أوائل ثمانينات القرن الماضي. بل قدم أولئك كل وسائل الدعم اللوجيستية للاجتياح العسكري الأميركي الذي سحق الحلم العراقي المشروع عام 2003.
وكان الإحباط الأقسى الذي واجه الحلم العراقي هو حصار الإثني عشر عاماً.. فقد كان السلاح الأقوى الذي استخدمه تحالف الأميركان مع أعوانهم المحليين لتحطيم الحلم، فمن يجوع لا يحلم ومن يتعرى في الشتاء القارص لا يحلم، من يقاد إلى محكمة يتساوى فيها الجلاد والضحية لا يحلم. كان المطلوب هو قطع حبال الحلم، لكي يمنع ارتباطه بمركز العقل الباطن والضمير والوجدان، وهي كلها عناصر قوة خارقة تمتد خارج حدود جغرافية الوطن الصغير.
كادت الأحلام تتبخر حين استبدلت حكايات الخلاص من الاستبداد والدكتاتورية والفردية بأخطر مشروع مناهض للحلم الإنساني العراقي والعربي. كان المطلوب أن تصبح مساحته المنطقة الاستراتيجية المهمة المحيطة بإسرائيل (سوريا- مصر- العراق)، وتكون انطلاقته من بغداد بعد هيمنة مشروع التفتيت الطائفي عليها. هذا المشروع الخطير يقضي بتفتيت الوطن بعد تشتيت إنسانه وتمزيقه عبر مكونات جاهزة للتشغيل والتحريك (شيعي سني كردي في العراق) و(علوي سني كردي في سوريا) ويتم تركيب عوامل لوجستية مرحلية معها، وكان “تنظيم القاعدة” هو الأفضل لفتح الحروب الأهلية وترويج التطرف لتغطية سياسات الحكام المستبدين وحصولهم على الدعم الدولي والأميركي، وما زال هذا المشروع مشتغلاً رغم تقهقر الاحتلال الأميركي وانسحاب قواته عام 2011 بقرار من الرئيس الأميركي أوباما.
تقهقهر الحلم العراقي إلى أدنى حدود المحافظة على الحياة من الموجات المتلاحقة من المفخخات التي تستهدف الأبرياء.
لا مكان للأحلام في العراق، ولا مكان للأحلام في سوريا ومصر، وهي أحلام واحدة تنطلق من ضمير إنساني مشترك يجمع بين هذه الكائنات الإنسانية التي تعيش في منطقة جغرافية واحدة مرتبطة بلغة واحدة وتاريخ واحد ودين واحد.
ففي الأنبار يحرقون الرؤوس لكي لا تحلم، وفي الفلوجة يثأرون للمحتلين الذين انهزموا قبل عشر سنوات فيسمحون لوكلاء الحروب من تنظيمات القاعدة ليقطعوا رؤوس الأطفال وينصبوا إمارتهم، ثم يعاقبوا الضحية.
هكذا يجتمع أعداء الحلم في بغداد والفلوجة والأنبار والموصل وصلاح الدين وديالى ودمشق وأدلب وحمص والقاهرة، وينفذون لعبة مكشوفة واحدة؛ قطع وريد الحلم من الشعب والأمة.