23 ديسمبر، 2024 4:05 ص

في أول أيام الغزو الأمريكي للعراق، وفي عز التلاحم المصلحي بين الحلفاء المبشَّرين بالجنة الأمريكية الإيرانية أكد مسؤول كوردي كبير أن الجبهة الكوردستانية نادمة على تحالفها الاضطراري مع الأحزاب الدينية الشيعية، ليس في فترة ما بعد سقوط نظام صدام، فقط، بل قبل ذلك بكثير، ربما قبل مؤتمر فينا الذي كان أحمد الجلبي واجهتَه الظاهرية العابرة.
واعترف ذلك المسؤول، يومها، بأن عجز القوى السياسية العراقية الليبرالية واليسارية المعارضة عن إسقاط نظام صدام حسين بقواها الذاتية، وحدها، أجبر الجبهة الكوردستانية على الانخرط في تحالف مرحلي مرهِق ومتعِب مع جماعات دينية طائفية أصولية متشددة تعمل بوصايةٍ إيرانية وسورية كاملة، ولا تتفق مع القيم والمباديء الـ (ديمقراطية) التي قال إن أحزاب الجبهة الكوردستانية تقوم عليها.
ومع الاعتراف بأن في كلامه الكثير من الصدق والواقع المحزن، مع الأسف الشديد، إلا أن ذلك لا يشكل المبرر الكافي لاقتسام الوطن وأهله وثرواته مع قوى لم يُعرف عنها الصدق والأمانة والنزاهة واحترام العهود والالتزام ُ بالمواثيق.
ولأن ذلك التحالف كان عشوائيا، وبدون آليات محددة، وبلا ضمانات دولية رادعة تضبط قواعدَه وتضمن ديمومته وتحميه من الإنحراف والاستغلال، فلم يكن مُستغربا ولا مُستبعدا أن يصيب الغرور والطمع وهوس القوة والجبروت أحد َ الطرفين المتحالفيْن، بعد أن يمتلك السلطة، فيكسر قواعد اللعبة، ويُسمم روح الشراكة، ويستفرد بالقرار.
وقد بيَّنت المناوشات والاستفزازات والتجاوزات والاحتكاكات التي بدأها نوري المالكي، في زمن رئاسته الثانية، 2010 وما بعدها، ضد حكومة إقليم كردستان، على أن ذلك التحالف بالغٌ نهايته لا محالة، في قادم الأيام.
وما يحدث اليوم بين مسعود البارزاني ومحازبيه ومؤيديه، من جهة، وبين جماعة إيران في المنطقة الخضراء، من جهة ثانية، دليلٌ واضح على أن الشراكة في الحكم بين شخصيلت وأحزاب وقوى غير منسجمة، وغير متقاربة في الرؤية والعقيدة والهدف، وغير مبرأة من المطامع الزعامية والعنصرية والطائفية، فلابد لها أن تصبح في قادم الأيام، أو الشهور او السنين، قنبلة موقوتة تنفجر في وجوه أصحابها.
ورغم أن التعصب الأعمى لأي شيء كان ويظل أبغضَ شيء عند الله الذي أوصى عباده بالاعتدال، وبأن خير الأمور أوسطها، إلا أن ما يجري في العراق اليوم بين البارزاني وخصومه هو أسوأ أنواع التعصب والتزمت والبعد عن الاعتدال في الموقف والخطاب والقرار.
فبغض النظر عما قيل أو يقال عن الاستفتاء المقبل، وعن احتمال إعلان الاستقلال، فإن كردستان، منذ العام 1991 وحتى اليوم، (ولاية) كانت ملصقة بالعراق ثم غادرته وخرجت من عباءته إلى غير رجعة، وأصبحت دولة مستقلة لها حكومتها وجيشها وعلمها وبرلمانها وسفاراتها، ولا يدخلها العراقي إلا بتأشيرة مسبقة.
رغم أنها عرفت من أين تؤكل الكتف حين أبقت على حصتها في النصف العربي العراقي، وبقيت فيه تأمر وتنهى، بحكم الدستور، وبرضى الداعين اليوم إلى غزوها وذبحها وطرد كل مواطن كوردي وإرساله إلى مسعود، حتى لو كان أجداد أجداده من ولادات بغداد أو محافظات الوسط والجنوب.
أما اللطامون المتباكون اليوم على وحدة الوطن، وعلى حرمة الدستور، وبالأخص إيران ووكلاءها، وتركيا وحلفاءها، وسنة المالكي، وسنة العروبة الخائفة على أمنها من النفوذ الإسرائيلي، فإنهم يَعرفون ويَحرفون، يدعون الحمار ويُمسكون بالبردعة، ولكلٍ منهم مصالحُه ودوافعه التي تؤجج مخاوفه من انفصال الدولة (المنفصلة) أصلا من زمن طويل.
وكان ممكنا لمشروع استفتاء البارزاني أن يحضى بدعم الملايين من العراقيين الغاضبين الناقمين الساخطين على فساد الحكم الطائفي المتخلف الذي اختلس أموال الدولة، وفرط بحقوق أهلها، وباع سيادتها، وتاجر بدماء أبنائها، لو كان مشروعا كورديا شعبيا حقيقيا ولد ولادة طبيعية ديمقراطية نزيهة، ومتوافقا مع صيغ الحق المشروع التي ضمنتها قوانين الأرض والسماء.
ولكن التعالي والغرور، وإرادة فرض الأمر الواقع بالقوة على الآخرين، ووضع اليد على المناطق (المختلـَف) عليها واستعمارها، واحتلال آبار نفطها، بعد أن كانت، من زمن بعيد، ملتقى الأعراق والأجناس والطوائف والأديان المتصالحة المتآلفة المتعايشة، جعل الكثيرين من المستقلين والليبراليين والديمقراطيين واليساريين يرفضون سياسة الاستحواذ والاستغلال والاستضعاف، وينبذون التهور، ويكرهون المقامرة بمصائر الأوطان والشعوب.
خلاصة هذا المقال أن حفنة من تجار السياسة وباعة الشعارات الطائفية والقومية، من العرب الشيعة والسنة والكورد، خربت بيوت العراقيين، وها هي اليوم مصرة على تخريب ما بقي منها، وهم لا يعقلون.
إنهم، ومعهم دولُهم التي تقف وراءهم وتمسك بخيوطهم، يتنادون إلى حروبٍ لن يصيب لهيبُها أحدا من السياسيين الكبار ولا من زوجاتهم وأولادهم وبناتهم، ولكن فقط على أهلنا المساكين تدور الدوائر.
ملاحظة، لقد خرج الصراع، اليوم، من إطار المماحكات والمشاحنات السابقة على وزارة أو على سفارة ليصبح افتراقا مصيريا حاسما بين حلفاء الأمس الذين لم يَفتَضحوا عندما كانوا يسرقون، ولكنهم يَفتَضحون اليوم عندما اختلفوا فيما كانوا يسرقون. ولله في خلقه شؤون.