في الحقيقة كلّما يهلّ علينا عيد الأضحى يبدأ بدني تعتريه قشعريرة خفيفة ومع تكرار كلمة “عيد أضحى” ينتقل بصري لذلك المشهد الخالي من أيّة ذرّة مواطنة بل انتقام .. أدركت فيما بعد سببها إعدام من كان رئيسي يومًا ما ,أمام نظري ,وأمام انظار العالم فاضحين أنفسنا أمام الملأ ببشاعة سلوكنا المتديّن المتدنّي لا نملك أيّ اعتبار لبدائل أكثر رأفة بالناس وبالمتّهم وبمن سمعوا عن الإسلام ولم يروا سالكيه وهم يطبّقوا نصوصه حرفيًّا ..ومهما كان المتّهم حمل من جرائم ,فهو كان لا زال حيًّا وفقده فقدان لإنسان مطمور في أعماق المتّهم..
أميركا احتارت هي والغرب ,كيف يخفّفون الموت عن كاهل من حكم به عليه ,وذلك دليل تفكير جاد للخروج من مأزق عقوبة إعدام النفس البشريّة ,ودليل على احترام العقل وعدم رهنه بمرتهنات مشكوك فيها زمنيًّا ودينيًّا وأخلاقيًّا ..منزّل القرآن نفسه بالنسبة إلينا لم يوصي سوى “بالرجم” أو الجلد ,في تنويه منه وبطريقة غير مباشرة إلى أنّ هذه العقوبة هي إعدام بحدّ ذاتها وإن أخذت وقتًا في التنفيذ ,وهي في نفس الوقت دعوة “إلهيّة” لاستنباط كلّ ما من شأنه مستقبلًا التخفيف عن المحكوم بتطمينه أنّ لديه أمل النفاذ من الموت “إن صبر على آلام العقوبة وتجرّعها” وقد تكون الآلام مستقبلًا تفضي إلى تغيير سلوك المتّهم بأساليب ستبتكر أو ستكتشف لاحقًا أكيد بما وكأنّ المحكوم الّذي “جزائه الموت” في عرفنا اليوم؛ يكون وقد وُلد من جديد وبحيث يمنع ذكر العنف أمامه, ليس بعمليّة جراحيّة تغيّر سلوكه أو جرعات كيمياويّة بل بتأليف قابليّته الذهنيّة بقناعات تُزقّ في ذهنه زقًّا تحت ضغط شديد عليه وبما تقرّب حالته للندم على ما فعل كأن يُلقى في ضميره ما سيُلقى.. وهذا ما يسعى إليه العالم المتمدّن اليوم, بل وكثيرًا ما ألغى حكم الإعدام نفسه في أوروبّا لاعتبارات إنسانيّة طالما البشر جميعًا يتمتّعون بالقابلية في إصلاح الذات؛ فلم لا نستثمر تلك الخصلة؟ ,طالما القتل بلا سبب ليس من الطبائع البشريّة بل مُقحمة عليه, إذًا استوجب هنا ,مستقبلًا ,معالجة السبب.. بل أنّني لا أغالي إن دعوت إلى إلغاء السجون نفسها واستبدالها “بآليّات حاضنة” مرهقة للمتّهم لا يخرج منها إلّا وتتملّكه مشاعر الندم الثقيلة القبول أثناء ما يتعرّض للمعالجة النفسيّة بعد أن يكون علم النفس قد قطع شوطًا كبيرًا في هذا المضمار ,إذ برأيي أنّ من راهن الوسط أو البيئة هي السبب وهي من تقف خلف السلوكيّات البشريّة زائدًا الموروث ,فجميعها أسباب ,لذا عليه ,وعلى العالم ,وهو بالتأكيد ما يسعى إليه الغرب أوّلًا ما دامت نمطيّته بحثيّة؛ محاصرة تلك الأسباب بتكثيف الدراسات والبحوث حولها وتحليلها لكلّ ناتج منها ,إذ من غير المعقول أن يكون الموروث ثابتًا والزمن يجدّد نفسه ويتغيّر بل والزمن بدا اليوم قرار الإعدام فيه هو جريمة بحدّ ذاتها!..
المتديّنون ما يمثلهم المالكي أو من يمثلوا القوميّون الشوفينيّون أو الراديكاليّون لم يكونوا كذلك بمثل هذه الساديّة والديماغوجيّة لولا “البيئة” وتأثيرات المحيط ..فكمدّعو تحضّر يجب على الكلّ إدراك أنّ “السبب” وراء كلّ فعل, وهذه نضعها نصب أعيننا ,إذ أنّ المالكي مثلًا, أو الجعفري أو صدّام حسين أو كلّ من أساءت سياساته للناس إنّما هم ضحايا ظروف وبيئة ,وهذه من وجهة نظر التحضّر والتمدّن الحقيقيّين إن بحثنا عن “إسلام صالح لكلّ عصر” ؛يبقى داخل كلّ من هؤلاء إنسان, وإن انحرافهم فلظروف بيئيّة ,مثل التلقين المغيّب للوعي أو القاتل له, وهذا ما يجب أن يُستثمر لا أن يُعدم من ابتلي به ,مثلًا, فالسلوك المتحضّر يعتبرها حالات مرضيّة.. كما ويجب علينا إعادة قراءة: “من صفعك على خدّك الأيمن أدر له خدّك الأيسر ليصفعك” ونتأمّل هذه الخلاصة الإنسانيّة جيّدًا فهي تحمل من الرقيّ ما يكفي ويغني عن جميع الحلول ,ومنها ننطلق, رغم صعوبتها وقساوتها أوّل الأمر فقد تتدخّل “الكرامة” فجأة بما لا يحمد عقباه في روع أحدهم فتشكّل لديه بأقسى من الموت! ,فهي مدرسة تأديب للمعتدي كاملة, قائلها مستوعب جيّد للنتائج لأنّ تكون الظروف أو “الأسباب” هي الّتي صفعت, وما “الصافع” سوى منفّذ ,فإن تجعل من السيّء يكره نفسه على فعلته ويندم لمن أدار له خدّه الأيمن ,وتلك أشدّ عقوبةً على ضمير الفاعل من “الإعدام” ومن جميع العقوبات ..
صدّام حسين قاتل قتل الكثير والأغلبيّة تؤيّد ذلك ,لكنّ القتل بالنسبة إليه “تصريف” سياسي, وغيره كذلك يدّعي نفس ما ادّعاه ومنهم “بوش” وبمن فيهم المالكي أيضًا إن وُضع سلوك هذا الأخير أمام القضاء وتحت التحليل ,قد تظهر النتائج أنّ سبب انحرافه نحو السوء هي مصالح إيران, بعد أن تمّ تلقيم الرجل منذ نشأته الأولى على إنّ إيران تسكنها الملائكة ورغباتها أوامر, ومنها خرجت رغبة إيرانيّة بإعدام أشرس الأعداء ..كما وصدّام يشكّل بالنسبة للعراقيين مواطنًا عراقيًا ,ومهما يكن ,فهو عراقي لا إيراني ..سياسات رئيسي ورئيس العراقيين يومًا ما كانت وراء ما يحصل للعراق اليوم من مآسي بكلّ تأكيد أو هو أحد أسبابها, إضافةً إلى أنّ هناك عدوّ يتصيّد الأخطاء ..ولعلّ ما نلمسه اليوم من “ضائقة قياديّة شعبيّة مدنيّة” فبسبب أخطاء الرئيس العراقي الراحل برأيي والّتي كشفت عن وجود فجوة سياسيّة قياديّة كبيرة هي من سمحت للقيادات المدّعية الاسلام اليوم تلعب وحدها في الساحة السياسيّة إذ وكما بدا الأمر اليوم فهو خطأ كبير كانت مطاردات الرئيس الراحل الدمويّة المحمومة عندما كان نائبًا للرئيس للعناصر الشيوعيّة سبعينيّات القرن الماضي صبّت في صالح الغرب الرأسمالي والرجعيّة المتخلّفة, كما وهي من أهمّ أسباب عوز الساحة السياسيّة المدنيّة لأيديولوجيا معاصرة منافسة كان الشيوعيّون واليساريّون أهم أركانها لما كانوا يشكّلوه بمثابة “المطبخ” السياسي الرصين في العراق بما يحملون من أيدولوجيا علميّة فتحت بما استمدّته من حيثيّات فكريّة أعقبت الانبعاث الأوروبّي ما بعد الوسيط ,على البشريّة ,آفاق العلم والمعرفة بغضّ النظر عن الأخطاء الّتي ارتكبت.. برأيي حالة كحالة صدّام انتهت إلى ما انتهت إليه رغم ما حمل إقصائه الجسدي, سلوك حيواني لا إنسانيّة فيه ولا مشاعر سامية لمقرّريه لا في طريقة تنفيذ الحكم ولا ما سيعتبر مواصلة لطريق التصفية الجسديّة الّتي اشتهر بها عراقيّو ما بعد تأسيس الدولة بمن فيهم صدّام حسين ..كان يجب على ما اعتبروا أنفسهم شيوخ “الحكمة” والقدوة الحسنة “الإسلاميّة” تقليب قرار العقوبة في حقّ من اعتبروه عدوّهم الأوّل يومًا ما, من جميع الأوجه ,ومراعاة تغيير مسار “التبادل السياسي” الثأري المبني على البطش منذ تأسيس الدولة العراقيّة ولغاية اليوم ,خاصّةً بعد افتضاح السلوكيّات الساديّة بكلّ بشاعتها الحرفيّة الّتي عليها سياسيّي الخضراء ..وبالمقابل ,ماذا لو قيّض للراحل العودة للحياة بمبرّر قرآني: ( فقلنا اضربوه ببعضه كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلّكم تعقلون ) وعُرض أمام محاكم دوليّة مدنيّة ,على الأرجح أنّ الكفّة ستختلف عن قرار الأمس ,فما تركه منفّذي حكم الإعدام من آثار نفسيّة اجتماعيّة عميقة وخطيرة على الشعب بعد تشفّيهم بخصمهم المرعب ,سوف لن يكون اليوم لقرار الإعدام نصيب ..