15 نوفمبر، 2024 3:43 م
Search
Close this search box.

لا للتعسّف الإداري المقنّع، نعم لضرورة الإصلاح

لا للتعسّف الإداري المقنّع، نعم لضرورة الإصلاح

في توضيحه العاشر وعنوانه (في البحث عن الحقيقة)،قال “نيكولاس مالبرانش”Nicolas Malebranche: “عندما يفضلأحدهم حياة حصانه على حياة حوذيه(سائق حصانه)، فإنّ لديه أسبابه، ولكنّها أسباب خاصّة تثيرالرّعب في كل رجل عاقل. إنّها في الأصل، أسباب ليست معقولة، لأنّها لا تتّفق مع سيادة العقل (…)”
مما لا شك فيه، أنّالسخافة الناجمة عن هذه المقولةهي بداهةصارخة. لكن إذا كان هذا النمطمن التفكير يتجاوز الإطار الفردي ليصبح السلوك المميز لمجموعة من الأفراد أو لإدارة غير نزيهة أولعلّها عديمةالكفاءة، فإنّ رعب الأفراد العاقلينالذي تحدّث عنه”مالبرانش”Malebranche، يصبحمستشريا و يغدوالسخفشائعا، سواء بالنسبة للإدارة أوبالنسبة للمواطنين، بمن في ذلك الموظفينذاتهم صلب إداراتهم. ومعلوم أنالإدارة،وهيالمحورالرئيسيلقيادة الدولة، تستمد مبرّر وجودها وشرعيتها من قدرتها على ضمان-ضد أيتعسف- مهمّاتالخدمات العموميّة والمصلحة العامة لفائدة المواطنين .مع التأكيد على أنّ الموظفذاته،لايعدو إلّا أن يكونمواطنا ليسإلاّ. أليس كذلك؟
ولعلّنا لسنا في حاجة إلى التذكير، في غير ما جلبة ولا ضوضاء، ان وراء التنوّع الشديد في المطالبوالشكاوى الإدارية، هناك قواسم مشتركة من حيث الأصول والأسباب. ومن بينها تعقيد وتعدد الإجراءات الإدارية، مما يؤدي حتما إلى بطء فيدراسةمطالب المواطنين، لا بل وحتى مطالب الموظفين أنفسهم،صلب الإدارات التي ينتسبون إليها. كما هي الحالةالشهيرةلمهندسينتمي إلى إحدى الوزارات التقنيّة، وقد دعا مرارا  وتكرارإلى وجوب حصوله على حقّه في الترقية، عبر القنوات الإدارية الرسميّة، لا بل حتّى عن طريق الصحافة – بما فيها النقابيّة- لكن سعيهذهب أدراج الرياح. والأسوأ من ذلك أنّه لم يتلق إلى اليوم ، حتّى مجرّد ردّ يتيم،ولو بالسلب.وهذا التمشّيلا يترجم سوى عن السلبيّة والعجز عن الفعل والتقاعس عن العمل الإداري، الذي في مناخات أخرى أي في الديمقراطيات الغربيّة قد يصل إلى حدّ اعتباره لاشرعيّا ويفضيبالنهاية إلى تحمّل المسؤولية الإدارية في الغرض.كما يحدث أيضا أن لا  تطبّق  القوانين والمناشير الداخليّة من قبل بعض المسؤولين الإداريين الذين يفضّلون اللجوء إلى اعتماد التأويلات الشخصيّة للقوانين والأنظمة الأساسيّة على الرغم من أنّها جميعا واضحة، ولا لبس فيها،لابل وهيلا تقبل التأويل أيضا. إلّا إذا  كانت هذه التأويلات تندرج في سياقومنطق مقولةمالبرانشMalebrancheالمذكورة مطلع المقال.وهو ما لا أخاله يشرّف أحدا من هؤلاء المسؤولين.
يضاف إلى هذا، بداهة، غياب المعلومة التي تؤدّي بالإدارة  وبالمتعاملين معها إلى عدم الفهم المتبادل. ذلك أنّه-وهذا سؤال مشروع بقي عالقا إلى الآن- كيف لمواطن أو موظّف أو صحفيأن يتمكّن من ” أن يدقّ على الباب المناسب” ويكون في حوزته المعلومات الصحيحة عند الحاجة إليها، بطريقة وحيدة لا ثانية لها؟ إذا كانت الصعوبات في الحصول على المعلومة بشأن الإجراءات والخطوات التي ينبغي اتباعها للحصول على حقّ ما، تحاصره من كل جانب وتواجههفي كل حين وآن.  أليس هذا نوع من الظلاميّة المقنّعةl’obscurantismedéguisé؟
عندما يكون الموظف واقعا تحت وطأة همومه وعذاباته الإدارية الكثيرة التي يضاف لها عادة قلقه الوجودي، فانّه لا يستطيع ،قطعا، الإمتناع عن الإعتقادبأنّهليس من المناسب فحسب، بل وكذلك من الضروري، أن يعيالمسؤولونو- دون إبطاء- أن الشعور بالظلم  الإداري الذي يعاني منه الموظف، أي موظف مهما كان بسيطا، إنّما هو القنبلة الموقوتةالتي لا يعلم أحد  منهم متى تنفجر في وجهه، ، إذا ما كانت الإجراءات الإدارية المتّبعة ضدّه مخالفة للقوانين. لا سيما إذا وضعها مسؤولون غير نزهاء. لذلك بات التوقّيمن  التعسّف الإداري، وإن لزم الأمراللجوء إلى محاربته دون هوادة ، هو الشرط الذي لا غنى عنه من أجل تحسين الخدمات الإدارية.
قطعا، إن هناك بونا شاسعابين إرادة  بعض المسؤولين المعلنة في تغيير الصورة الباهتة للإدارة، وبين التغيير الواقع فعلا بالشكل الملموس. لذلك فأن التغيير الذي طالما انتظره الجميع في دواليبالإدارة، يمكن أن يبقىمستحيلا،وإلى الأبد،لمن لديهم عقول مهووسة باستعمال منطق المخادعة والإلتباس،أو منليس بمقدورهم الانضمام إلى الإدارة الحديثة.ممّا يجعل عيونهم شاخصةلاتطرف، نحو هامش التفسير والتأويلقصد مخالفة النصوص الإدارية وتكريس الإدارة التعسفية التي هي في النهاية فعل هجومي و مظهر ملطّف من الاستبداد والمفارقة التاريخيةun aspect atténué de despotisme et d’anachronisme. وهما مرادفان، بالتاكيد،لإدارة لا تتنفس هواء عصرها.
إستمتعوابهذا التناقض: بينما الفلاسفة مثل Vernaux يؤكدون “إنّ الشخص هو فرد. ولكن ليس أي فرد!إنّه مادة فردية ذات طبيعة عقلانيّة. إنّه فرد موهوبله عقل”Unepersonneest un individu. Mais non pas n’importequelindividu! une substance individuelle de nature rationnelle, un individudoué de raison”فإنّ  المسؤولين الإداريين تأخذهمالمتعةأحيانافي قول بعض الهراء ليستنقصون من قيمة وجدارةبعض الموظفين ويحدون من مزاياهم لدرجة أن البعض منهم يصيبهم الشكّ في قدراتهم العلميّة والمهنيّةفيفقدون الثقة في أنفسهم تماما، رغم كفاءاتهم العلميّة الممتازة التي غالبا ما لا تتوفّر لدى رؤسائهم. وهو أمر غير مقبول، ولا يحدث إلّا في عالمنا العربي المنكوب بمسؤوليه في الأعم الأغلب.
إذا جازت المقارنة، فإنّنا نقول أن الإصلاح الإداري والتحديثإنّما يلعبان بالنسبة للإدارة دورا مماثلا للفحوصات الطبية بالنسبة لحياة الإنسان. وكما يقول أفلاطون في كتابه ‘تمجيد سقراط” Apologie de Socrate:” إنّ حياة بدون فحص لا تستحقّ أن نعيشها،” فإنّي أقول دون تردّد، إن إدارة يغيب عنهاالإصلاح الشامل والعميق،الذييمكّن من تخفيف وطأة الظلم ويسهم في تحسين خدمات الإدارة وتلميع صورتها لدى الجميع،لهي غير جديرة باسمها وينطبق عليها ما قصده Rostandفي قوله:”إنّنا نوهم أنفسنا أنّنا فعلنا كل شيء لفائدة العدالة عندما  نشتم الظلم “:” On se figure avoir tout fait pour la justice quand on a bienvitupéré les injustices”. فأيّ تفكير هزلي،مضحك وباطل هذا! إنّه التفكير الذيلا يؤديإلّا إلى عدم المساواة المتزايدة ولا يتنتجسوى موظفينانهزاميين، مغلوبين على أمرهم  ومسلوبي الإرادة من قبل إداراتهم. إلى درجة أن يعيشواحياة الطمس الذاتيA tel point de vivre l’effacement de soi.
وباختصار، فإنّأمامالجدليّةالمدمّرةالتي لا تنتهيبين الإدارة والمواطنواستحالة القراءة في نظراتالموظف الذي استنقصوا قيمته وطمسوا شخصيته، فقد حان الوقت لأن تشعر الإدارة كل موظف باحترامها له، باعتبارهذات عاقلةوشخص بما هو -عقل وحرية-وموضوعحقوق وواجبات، وبالتالي يستحقّ في جميع الحالات، الحماية والاحترام  من قبل إدارته. وهو ما تعبّر عنه أعمال بسيطة لكنّها ذات بال وأيّ بال.منمثل الردود على طلباته مع التعليل المناسب، الذي يشرح اعتبارات الواقع والقانون التي تشكل أساسا للقرار. ومن مثل تقديم الاعتذار في حالة خطأ إداري.، ومن مثل معالجة الملفّاتباعتمادالنزاهةوالحياد والموضوعيّة.
بالتأكيد،هذا هو، السلوك الإداري الجيّد الذي ننشده ولا يزال -للأسف-بعيد المنال. وقد يستوجب التعاطي الإداري بمقتضاه عشرات السنين الضوئية،بل ربّما أكثر.
_____________________________________
*هذا النصّ هو ترجمة بتصرفلمقال باللغة الفرنسية للكاتب بعنوانNon à l’arbitraireAdministratif وقدنشر بجريدة Le Soir Échosالمغربية، وبموقع Le Matin   الجزائري وEspaceManagerالتونسي

أحدث المقالات

أحدث المقالات