18 ديسمبر، 2024 9:19 م

لا كلمةَ حرّة في قناةِ الحرّة‎

لا كلمةَ حرّة في قناةِ الحرّة‎

أن تقولَ كلمتَك عن وعيٍ وقناعةٍ دونما ريبةٍ أو تردد هذا يعني أنَّك حرٌ في عالم الكلمة ، لكن أن يُحجّمَ هذا الاقتناع ويحاصر لِتجُبرَ على تركه فهذا خلاف حريّةِ الكلمة ، فللعقلِ قوانينه التي لايسمح بمغالطتها أو الإلتفافِ عليها ، فالواحد بحسب منطق العقلاء لايقبل القسمة على إثنين ، والإثنان يرتضي القسمة على نفسه لكن بغير زيادة ، ومن الجميل في ضوء هذه المفاهيم أن تكون المُتبنَّيات ولاسيّما التي تنتمي لدائرة العقيدة مُؤسسَةً على أساس هذه القوانين أي قوانين العقل ، الأمر الذي تكون معه تلك المُتَبَنيات بعيدةً عن التعنُّت وتغدو رقمًا يُصعبُ تجاوزُه أو التطاول عليه أو نقضه ، فتكون بذلك أقرب إلى الصواب منها إلى الخطأ في دائرة التقييم ،  وعاملاً مؤثرًا  تأخذُ دورَها في التفاعُل والانتشارِ والانتماء إلى عالم الحقيقة .

أُعجبْتُ حين رأيتُ إطلالةَ امرأةٍ لا أعرفها من على شاشةِ قناة الحرة عبر برنامجهم المطروح في إطار أنثوي أسموه بـ (( هنَّ )) ، وقفتْ هذه السيدة تدافعُ عما تؤمن به عقيدةً وانتماءً في ردِّ إشكالياتٍ فُهرست تحت عنوان ( الإرهاب وإشكالية النقاب ) ، خلاصتُه : إن الإسلامَ باتَ مهددًا تحدِقُ به الأخطارُ من كل حدب وصوب وأكبرُ خطرٍ يهدده في بلاد الوطن العربي  هو ( النقاب ) نتيجة استغلاله من قبل الإرهابيين باتخاذه وسيلةً للاستتار وغياب الهوية فيغدو الشخصُ مجهولاً يتعذر معرفته ، ومن ثمَّ من السهولةِ بمكان أن يقوم بتفجير نفسه والكلام هنا عن (المرأة) ، فارتداء النقاب يجعل هذا الخطرَ المحتملَ في دائرة الوقوع والإمكان ، وهو خطرٌ من شأنه أن يُضعفَ هيبةَ الدولة والإسلامَ على حدٍ سواء ، وعليه فالمطالبةُ بحسب ما طرحته هذه القناة بإلغاء ارتداء النقاب بات ضرورةً مُلحة .

 وفي مقام الردِّ الذي كان مثارَ إعجابي وانبهاري بمنطقِ هذه المرأةِ المُنقبة التي لم يقفِ النقابُ حائلاً دون حصولها على شهادة عليا (ماجستير) من دولةٍ لا تؤمن به ( استراليا ) ، فكان الردُّ منها في ضوء منطق العقل واحترام الرأي الآخر مهما كان مخالفًا : إن مسألة ارتداء النقاب ليست واجبةً في الإسلام وهي أيضًا مسألةٌ خلافية بين العلماء ، وإذا كان استغلالُ النقاب من قبل بعض الإرهابيين الذين لا يتجاوزون أصابع اليد مدعاةً لإلغائه ، علينا إذن أن نشطبَ على أمورٍ كثيرة يمكن أن تُستغل في هذا الغرض ، وقد دخل استغلالها حيز التنفيذ كالملابس العسكرية الرسمية مثلاً ، وأضافت : بأن التفجير الذي قامت به مجموعةٌ من النساء الشيشانيات في روسيا لم يكنَّ في حالةِ ارتداءٍ للنقاب .

  لا أريد الإطالة في استعراض ما ورد من إشكالياتٍ وردِّها ، لكن الأمرَ المهم أنه حينما وجّهت مقدمة البرنامج تعاضدها أخرى مفترضةً لو أن الدولة أصدرت قرارًا بمنع ارتداء النقاب فما هو موقفك منه ، هل ستخلعينه ؟ فأجابت وبدون تردد ( كلا … لأنه يتعارض مع حريتي ) – طبعا هذه الحرية لاتروق لأسرة قناة الحرة لأنها لاتنسجم مع تطلعاتهم الرامية إلى حريةٍ تتجاوز حدود احترام حرية الآخرين تحت مسمى الانفتاح – هذه المرأة أرادت أن تقول لهن : أيها النسوة اللواتي عزفتُنّ عن تبني الإسلام نظامًا لحياتكن ، لماذا تحاولن تقييد حريتي ، أليس في هذا تناقض مع مزاعمكم الرامية إلى سيادة الحرية وانتشارها الأمر الذي يُخرجكم من دائرة العقلاء لأن قوانينه لاتقبل المغالطة أو التناقض بحال .

  لم تكتف سيدتنا الجليلة بذلك بل وجّهت إليهن صفعةً في صميم أفكارهن وهدّمت كلّ ما سعين لتقريره وإقراره عبر إدارة هذا البرنامج ، وهي تظهرُ بذلك عمقَ تفكيرها وفلسفتها الرصينة ، إذ قالت لهن : إن كنتن تخشين على الإسلام من الإرهاب المتلعثم برداء النقاب بيد أن هناك إرهابًا أشد خطرًا مما ذكرتم ؛ أليس في الدعوة إلى السفور المقترن بالتبرج وما يستصحبه أحيانًا من تميُّعٍ وخلاعة وما يستدعيه من إثارة شهوة الرجال إرهاب ما بعده إرهاب ؛ فحينما يصبح المجتمع الرجالي منهوما بإشباع غريزته لاهثًا وراء صدى الشهوة هنا وهناك التي لاتقف عند حدٍّ بسبب عوامل الإثارة المشاعة فأيُّ قيمٍ إنسانيةٍ لهذا المجتمع وأيُّ مستقبلٍ ينتظره وسينتهي به المصير أن يكون مجتمعًا حيوانيًا لايعي ماذا يُراد به وماذا ينبغي عليه أن يفعل من مسؤولياتٍ متراكمة ، تتحكم به قوى الجهل والاستعمار بقيادة الماكنة الماسونية التي لا تكلُّ و لا تمل، فيغدو مجتمعًا مذبوحًا على أعتاب الحريةِ المزعومة ، أليس هذا إرهاب يفوق انفجار قنبلة هيروشيما و ناكزاكي ؟ ومن هنا جاء النقاب ليطوي صفحةً على هذا الإرهاب ولِيسدلَ دونه حاجزًا منيعًا .

   وأُضيف لما ذكرت هذه السيدة مثال الفخر والاعتزاز – إشارةً لأهمية الحجاب بالنسبة للرجل قبل المرأة ، الأمر الذي قد لايبدوغريبا بعد التأمل في قوله تعالى: ((هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ )) [البقرة : 187] ، يعكس هذا النص حقيقةً تنسجم مع المعطيات العلمية ، إذ إن الرجل أكثر تأثرًا وأشد تقبُّلاً لعوامل الإثارة من المرأة ، فهو الذي يُثار بما أودعه سبحانه من مواطن الإثارة في المرأة ، ولأجل أن تستقيم المعادلة ينبغي أن يستدل الستار دون تحقق الإثارة بأي صورةٍ كانت ، ومن هنا جاء دور النقاب ليحقق هذه الوظيفة ، ولذلك قدم النص القرآني ( لباس الرجل ) على ( لباس المرأة ) في مسألة الحجاب ، فحجاب المرأة واجبٌ لغيره أولا وبالذات ثم ينتقل وجوبه إلى المرأة .

    المسألة ليست مسألة نقاب فقد أكون غير مقتنع به من جهة الوجوب لكنني أتبناه كقضيةٍ مهمة لها ارتباط بالمباديء التي هي جزء من ذاتية الفرد ، فمادام النقاب عن وعيٍ وقناعةٍ فلم التنازل عنه وهو ما يفسح المجال أمام الآخرين أن يجردوننا عن كل خصوصياتنا ، دعوة لقناة الحرة أن تكون حرةً في طرح الآراء لا أن تكره الآخرين على آراءٍ غير مقتنعين بها فتغدو كلمتها محبوسة بين قوسين ، بل عليها أن تحترم هوية الشعوب في انتمائها .