ما كان من حسن التفكير والتدبير أن يتوجّه رئيس الوزراء حيدر العبادي الى البصرة مباشرة، قادماً من العاصمة البلجيكية، بروكسل، بعد حضوره اجتماعاً لزعماء ومسؤولين كبار آخرين في التحالف الدولي المناهض لداعش والمنخرط في حرب ضده في العراق وسوريا.
وما كان من حسن التفكير والتدبير أن ينزل العبادي في مطار المدينة المنتفضة في عزّ الصيف من فرط جوعها الى الطعام والكهرباء وسواهما، محتفظاً بكامل أناقته الرسمية (البذلة وربطة العنق) التي كانت من لوازم المشاركة في المؤتمر الدولي.
ولم يكن من حسن التفكير والتدبير أيضاً أن يُقصر العبادي اجتماعاته في البصرة على بعض المسؤولين المحليين وما يسمّى برؤساء العشائر، وهم جميعاً جزء كبير من المشكلة.
حسن التفكير والتدبير كان يقتضي أن ينزل العبادي في مطار البصرة بملابس “الكاجوال” (قميص نصف كم وبنطال وحذاء رياضي) فمشهد الزيّ الرسمي الدالّ على الراحة والاسترخاء لابدّ من أن يشكّل استفزازاً بصرياًّ للمكتوين بالحرّ الكافر والجوع الكافر، وكان يلزم أيضاً أن يشمل العبادي باجتماعاته ممثلين عن المتظاهرين والمجتمع المدني وشخصيات اجتماعية وثقافية بارزة، فهؤلاء هم المحرّك الرئيس للحراك الشعبي، أمّا رؤساء العشائر، كما قال بعض المتظاهرين لوسائل الإعلام، فلا يمثّلون حركة التظاهر، ومعظمهم كما هو معروف نفعيّون وانتهازيّون ولا يُؤتمنون على موقف وطني أو اجتماعي.
ولو توافر حسن التفكير والتدبير لرئيس الوزراء لكان قد عاد إلى بغداد أولاً ليعقد اجتماعاً طارئاً للحكومة ومجلس الأمن الوطني وسائر المجالس الاختصاصية التابعة لمجلس الوزراء، ليخرج بخطة عملية عاجلة بتوقيتات محدّدة لتلبية مطالب الحركة الاحتجاجية، وهي بالمناسبة مطالب معروفة ومتكرّرة ومُعترف بأحقيتها وشرعيتها ودستوريتها منذ 2011 ، ثم بعد ذلك يطير إلى البصرة مع عدد من الوزراء المعنيين ليعلن أمام المتظاهرين أو ممثليهم البدء بتنفيذ الخطة التي لا تقتصر على البصرة وحدها، فمشكلة انهيار نظام الخدمات تعاني منها محافظات العراق قاطبة… الكلام العمومي الذي قاله العبادي في البصرة بأنّ حكومته ستحقّق مطالب المتظاهرين فلا أظنّ أن أحداً قد أخذه على محمل الجد، لأنه كلام معاد ومكرّرعشرات المرات من العبادي وأسلافه. أما كلامه عن وجود “مندسّين” بين المتظاهرين فهذه إسطوانه مشروخة سبقه إليها نظراؤه السابقون، وما كان عليه إعادتها، لأنّ الكشف عن “المندسّين” وإبطال مفعولهم إنّما من واجبات الأجهزة الأمنية التي يقودها العبادي مباشرة.
كان من حسن التفكير والتدبير، قبل كل شيء، أن تتضمّن إجراءات العبادي، بدلاً من التعويل على وسائل القمع وتعطيل شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فتح ملفات الفساد الكبرى التي ظلّت مُغلقة على مدى الاثنتي عشرة سنة الماضية، إذ كان على رئيس الوزراء أن يُدرك أنّ علّة العلل على صعيد سوء الخدمات العامة وتدهور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلد، إنّما تكمن في الفساد الإداري والمالي الذي لم يلمس الناس أي إجراء جادّ لمكافحته وملاحقة الفاسدين واسترداد المليارات التي نهبوها .. بل إنّ كل ما حصل هو استمرار التستّر على قضايا الفساد ، لأنها تطول كبار المسؤولين في الدولة والعملية السياسية، حاليين وسابقين، ممن ظل العبادي يخشى موقف أحزابهم منه خوفاً من فقدان منصبه. بين الشواهد على هذا تواطؤ العبادي وحكومته مع هذه الأحزاب في تشريع قانون العفو العام الذي أطلق أيدي الفاسدين، ومعهم الإرهابيون، في مواصلة فسادهم وإرهابهم، وهو ما كان بين العوامل المؤدية الى أن تبلغ الأمور في الايام الماضية درجة الانفجار.
في المستقبل ستكون الانفجارات أشدّ قوة ووقعاً مادام رئيس الوزراء وسائر المتنفذين في العملية السياسية يريدون العلاج بالمسكّنات منتهية الصلاحية وبوسائل القمع.
انتظروا لتروا…!