18 ديسمبر، 2024 8:40 م

علاقة الدين بالوطن علاقة تكاملية ، فأحدهما يكمل وجود الآخر انتماءا و ولاء ، من حيث أن أهمية الدين الأساسية تستهدف إسعاد الإنسان بالدنيا وفق تشريعاته المتسمة بروح النظام والانسجام و السماحة و اليسر ، والوطن بما يضفيه من محبة وتلاحم وتواصل بين مواطنيه مطرز لهذه السعادة أيضًا ، قد يسعد الدين الإنسان بدون وطن لكنه يبقى قلقًا تتخبطه هواجس التردد في الانتماء فتارةً يشرق و أخرى يغرب .
    وأولى انعاكسات الدين فيمن ينتمون إليه شعورهم بحالةٍ من الاطمئنان القلبي و السمو الروحي ، قال تعالى ((الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ  )) الرعد : 28 ، فكلما اعترضهم حادثٌ ما لاذوا بالدين في حكمته ليرسم لهم وابلاً من فيوضات العلم و المعرفة تبعث فيهم الاستقرار و السكينة ، إلا أن هذا الاطمئنان قد يشوبه سمتًا من الاضطراب و يعلوه وشاحٌ من الوهن حين يعيش الإنسان بغير وطن ، تتقاذفه أمواج الذل و الهوان بين أرضٍ و أخرى ، وهنا يضعفُ أثر الدين في نفوس من تغربوا عن ديارهم تطاردهم العيون و تتقحمهم الهموم ، فالاطمئنان أمر ملازم للعيش في كنف الوطن و نعيم رياضه ، ولذلك قال علي ( عليه السلام ) : ((اَلْغِنَى فِي اَلْغُرْبَةِ وَطَنٌ وَ اَلْفَقْرُ فِي اَلْوَطَنِ غُرْبَةٌ )) وقد يشمل الغنى هنا بمعناه العام عدم الحاجة إلى الآخرين ماديًا و نفسيًا ، فيُستعاض بالمال للحصول على عامل الاستقرار و السكينة بعيدا عن الاضطراب .
  وقد يعيش الإنسان غريبًا في وطنه يعرضه في مزاد البيع و الشراء ليبعه بأبخس الأثمان ليتنازل عنه في أول محنة يتعرض لها الوطن ، لأنه اعتاد أن يكون ضيفًا على أوطانٍ متعددة فيعيش بغير انتماء ، وهكذا أناس بعيدون كل البعد عن التضحية في سبيل الوطن ، لأن التضحية لا تجد لها سبيلاً في عالم الغربة عن الوطن فكيف يُضحي من لايعرف قيمة من يضحي له ، فلا ينتظر منه غير ذلك ، وهذا الأمر مرتبط بالدين أيضًا ، لأن الشعور الديني من شأنه أن يكرس مفهوم الوطنية ويدفع الإنسان نحو الانتماء إلى الهوية ، باعتبار هذه القيم تعزز عنصر الإنسانية في وجوده ،ولذلك فإن أي خلل في دين الفرد يقابلها نقصٌ في وطنيته وحبه له .
وفي مقابل ذلك يسعى الاستعمار في طول التأريخ أن يكون الإنسان لاوطن له يعيش الغربة و اللا انتماء في قرارة نفسه ، أن يعيش بغير هوية تمنحه الكرامة و العزة و الإنسانية ، ليكون بذلك طيعًا في تنفيذ مشروعاتهم الاستراتيجية التي تحطم حدود الأوطان ليتحول العللم برمته إلى قريةٍ صغيرة تحت سيطرة الإمبريالية العالمية ، ولأجل ذلك لا سبيل أمامنا كي نحيا بسلام و عزة و كرامة إلا أن ننمني حب الوطن في نفوسنا و قلوبنا و عقولنا ، وبه من الممكن أن ينتج فينا هذا الحب إيجاد شريحة اجتماعية مؤهلة لاختيار من تتحقق فيهم شروط الكفاءة والنزاهة من السياسيين الوطنيين لبناء هذا الوطن ، ولنسأل أنفسنا و نتكاشف معها ما قيمة الوطن في نفوسنا ، وما هي علاقتنا به ومدى استعدادنا للتضحية بالغالي و النفيس من أجله ، أم أننا نعيش في أوطانٍ متعددة ونرتبط بانتماءات متلونة ؟؟ فكيف لنا بعد هذا أن تكون لنا قيمة وهوية و انتماء .
 وليعلم الجميع أن أي فرد يقدم مصلحته على مصلحة وطنه لهو بعيدٌ كل البعد عن الانتماء الديني الحقيقي ، وليس الدين سوى أداة و وسيلة لتمرير مصالحهم الخاصة ، وهو بريء براءة الذئب من دم يوسف من ادعاءاتهم الدينية المزيفة ، لأن من لادين له لا وطن له ، ومن أخلص في دينه كان خادمًا لوطنه في البأساء و الضراء ، وصدق قول علي حين قال : (( حب الوطن من الإيمان ))  .