بدأت مدينة كركوك تستعد لتلقف المهمة من مدينة الموصل، كما حدث العام 1959 عندما اندلعت النزاعات فيها مباشرة بعد القضاء على ما عرف بمؤامرة الشواف، ومن ثم تم إلقاء تبعية كل ذلك على الشيوعيين العراقيين، بعد الموقف المتخاذل لتقرير لجنتهم المركزية (تموز 1959) الذي تخلى بنحوٍ مخزي عن القوى الديمقراطية والشعبية التي انبرت بكل شجاعة ووعي للدفاع عن الجمهورية الأولى وتوجهاتها التقدمية والحضارية، وهذا ما أشار إليه سلام عادل قبل استشهاده بأسابيع عندما قال (خسرنا المعركة عام 1959 لا في شباط عام 1963). الى يومنا هذا لم تظهر دراسات أو بحوث جادة حول ما جرى في ذلك العام المفصلي في تأريخ العراق الحديث، والذي انتبه له أحد المراسلين الأجانب في العراق آنذاك، عندما كتب في تقريره عما وصفه بـ (العري الكامل للقوى والمصالح والاصطفافات) عندما التقت جميع القوى المعادية للمشروع الوطني والحضاري العراقي في جبهة واحدة مقابل قوى شعبية واسعة افتقدت ربانها المناسب، لينطلق العد التنازلي الذي نقل سكان هذا الوطن القديم من مشروع الحلم بالوطن والمواطنة الى سلسلة طويلة من كوابيس وحروب الأحقاد والرسائل الخالدة والتي توجت بفردوس الخلافة الذي نهض من وسط أنقاض جمهورية الخوف التي تبخرت مع تسلق شبح أول دبابة أميركية لأحد جسور بغداد.
على من ستلقى آثام ما يحصل اليوم في الموصل وكركوك، لا وجود يذكر للشيوعيين في كلا المدينتين المضطربتين زمن الانعطافات التأريخية، والهادئتين مع الدكتاتورية والاستبداد! من جامع الموصل الكبير تم الإعلان عن عودة الخلافة وما رافقها من عمليات قتل ونهب وسبي واغتصاب وتهجير شمل الملايين من البشر، بعد عامين من القتال الشرس والتضحيات والخسائر البشرية والمادية الهائلة، وبعد أن أوشكت عملية تحرير الموصل من قبضة العصابات الهمجية على الانتهاء، اضطربت الأمور في كركوك بعد أن قرر كاك نجم الدين أن ساعة رفع علم كردستان على الدوائر والمؤسسات الحكومية في محافظة كركوك؛ قد آن أوانها بوصفها أمراً لم يعد يقبل التأجيل..! طوال أكثر من نصف قرن ظلت الأكاذيب والقصص والتهم والتقارير الملفقة هي السائدة حول طبيعة وأحوال هذين المدينتين العراقيتين، لكن الأقدار أبت إلا أن تطيح بكل تلك المساحيق التي تخفي الملامح الفعلية لطبيعة القوى والعقائد والهلوسات التي تقف خلف ما يحدث فيهما بالأمس واليوم.
في علل اضطراب هذين المدينتين عند مفترق التحولات الانتقالية، يمكن التعرف على نوع التحديات الواقعية التي لم تجد لها حلولاً غير القمع المفرط والذي عقدها الى حين، والفوضى والتعاطي غير المسؤول مع قيم الحريات والحقوق التي رافقت سقوط النظام المباد. لذلك تحولت الموصل وكركوك الى ما يشبه الخاصرة الرخوة للعراق، بعد هيمنة قوى التخلف والتشدد والتعصب الطائفي والإثني، حيث تساق الجموع غالباً الى قوقعاتهم الضيقة، بوصفها الملاذ الآمن لها من “خطر” المختلف عنهم بالرطانة والأزياء. الاصطفافات والهموم التي تشغل الحشود والكتل المتنفذة مناسبة تماماً، لصعود مثل هذه الزعامات والخطابات الشعبوية المميتة. ان الخطوات والقرارات التصعيدية الأخيرة من قبل صقور المتاريس الإثنية والطائفية، متوقعة تماماً مع مثل هذه الأوضاع الخطرة والهشة التي يعيشها العراق، وستلحق كما في المنعطفات السابقة أفدح الأضرار بقضية استقرار البلد وأمنه وتطوره المنشود..
نقلا عن الصباح الجديد