23 ديسمبر، 2024 7:48 ص

لا تَقلَقي فغداً يأتي البريد

لا تَقلَقي فغداً يأتي البريد

مابين نزع الكولونيل غطاء علبة البُن والتي لم يبق فيها سوى قدر ملعقة صغيرة وبين اللحظة التي تأمل ملياً زوجته بعد أن جذبته من عنق قميصه وهزته بقوة وهي تقول له:
ماذا سنأكل غدا ،
إحتاج الكولونيل لذاكرة تستطع جمع خمسةَ وتسعين عاما تلك التي عاشها دقيقة دقيقة وقد قدم ماركيز للسنوات تلك مُركزا على مجموعة من الأسماء التي شكل البعضُ منها وقائعَ مستقلة والأخرى وقائع عامة وأراد أن يقدم لنا رؤيةً ما للأحداث سواء كانت أحداثا هامشية أم رصينة كون كِلا هذه الأحداث رغم إختلاف قيمتيهما الجوهريتين فأنهما تشكلان وبالتناوب قاعدة لإستكمال السّرد القصصي ضمن بنيوية متنوعة تارة لجعل الأشياء تتمتع بمساحة محددة وتارة بمنحها المزيد من الحرية ومن ذلك التشكيل نجد بأن المعلومة غير مستقرة أي لاتفصح عن كُليتِها ضمن

الربط التتابعي للأحداث إلا بعد أن يُهيئ لها فرصتها النادرة مابين الإقتراب من الواقع ومغادرته ثم تحويله الى بخار أثيري لترتبط صورة الحدث بالوقائع المحسوسة ضمن عمليات التجاذب ثم التلاحق مما ساعده دائما على تأجيل بيانات الأحداث الى أوقات لاحقة ،من الأشياء الرئيسة في رواية ماركيز ليس لدى الكولونيل من يكاتبه هناك المحارب القديم الذي أحيل على التقاعد وهو بأنتظار راتبه التقاعدي مذ خمسة عشر عاما ومن الأشياء الرئيسة الأخرى في الرواية (الديك ) ديك إبن الكولونيل المتوفي والذي توفى قتلا في حلبة مصارعة الديكة بعد أن رصد وهو يخبئ في جيب بنطاله يُخبئُ بسرية منشوراً ضد السلطة، والديك والكولونيل هما الشخصيتان الرئيسيتان واللتان من خلالهما تكتمل شبكة إيصالات الرواية فهناك فاقة وأمام ذلك لابد من مورد وهناك إنتظار مرير للبريد القادم من خلف البحار كل يوم جمعة عله يأتي برسالة للكونيل العجوز فقد بدأت تنبت الأعشاب في إحشائه تزامنا مع هطول الأمطار مع زوجة مصابة بالربو لم يبق بحوزتها غير أربعين سنتا ثمن ماكنة الخياطة التي ورثتها عن إبنها أوغستين الذي كما ذكرنا أغتيل في حلبة صراع الديكة ورغم أن هذا المبلغ غير كاف لإطعام الديك وشراء علبة قهوة

تبدأ صور المشاهد بأخذ طابعها التراجيدي أمام قناعة الزوجة أن ليس هناك من بريد سوف يأتي ومللها من وعود الزوج( الكولونيل ) وقناعاته بأن البريد سوف يأتي في الوقت الذي يزداد فيه المطر وتتصاعد الآم الأعشاب في بطنه ويتعالى سعال الزوجة المصابة بالربو وتتسرب المياه الى الأرض من سقف الغرفة ليبدأ يرتب ماركيز مواجهته الخجولة لذاته أمام موظف البريد الذي ينظر اليه نظرات اللامبالاة ويخبره بصوت مسموع وهو يلقي بكيس البريد على ظهره أن لاأحد يكاتب الكولونيل فالمشاهد تتوالى على القارئ بصوت موسيقاها الداخلية وما تساهم به الصور الشعرية من قدرات لتثبيت توافق الأحداث وأعطاء الشكل العام للرواية قوامها الرشيق بعيدا عن قوانين الميكانيكية السردية ولأنها عملية تذكُر فالأشكال لاتُرى بشكلها الذي كانت ترى عليه بل بالحاسة التي يمتلكها الرائي لإعادة تشكيل الحوادث وخيرالمتوقع منها أنها حوادث مختلفة النتائج وهذا يعني أن لاإطار في صور الأحداث وإنما عمل ماركيز على فتح ثغرات للوصول الى اللامحدد مُركزا إنتباهه الى تزاوج ذاكرته ونداءات عقله الباطني حين قال له الطبيب بعد الكشف على زوجته للمرة الأخيرة غدا سآتيك بلائحة ديون سميكة

حين يكسب الديك ،ولاتنسى قالت له زوجته وهو يودع الطبيب لدى الباب

لاتنسى إشتري لنا فيلا مذهبا لنعلقه على الباب، كان على الكولونيل أن يتخلص من المضايقات التي كان يراها في عيون الذين يمر بهم وكان لابد من أن يكون قادرا على حضور مراسيم الجنائز حين تقرع الأجراس، لاشك أن ماركيز في عمله الروائي هذا أرادَ إضاءة جوانب متعددة في حياة مدينة وكولونيل عرج عليهما في روايته مائة عام من العزلة وقد قبّلَ ماركيز في الكولونيل سلطة الماضي وأكد قناعاته عن ماتعنيه السياسة والآعيبها وهو ينتظر ينتظر والمطر لاينقطع والأعشاب تتكاثر أوجاعا في باطنه ولم يبق له من شئ بعد أن مرض الديك وأبتاع الساعة وكل جمعة وهو بأنتظار لائحة راتبه التقاعدي يذهب الى الميناء ليشاهد موظف البريد يرمي اليه بنظرة يائسة وحال نظرته تقول :

لاأحد يُراسل الكولونيل ، لاأحد يُراسل الكولونيل

*[email protected]