23 ديسمبر، 2024 4:32 م

لا تهملوا دور الرأي العام في عملية البناء الجديدة

لا تهملوا دور الرأي العام في عملية البناء الجديدة

فترة السنوات المريرة التي أعقبت زوال السلطة السابقة، وما رافقها من أحداث جسام واضطراب وفوضى عارمة واختلال خلقت لدى الشعب العراقي كما هائلا من الوعي السياسي والاقتصادي وقابلية لتحليل ما يجري من أحداث على المستويين المحلي والخارجي، وصار معتادا على تجاوز الأزمات المؤقتة، وتخطي أخطاء السياسيين وتنبيههم عليها. ومن هنا يبرز دور مؤسسات المجتمع المدني التي يقع على عاتقها استقراء صوت الراي العام وايصاله الى الحكومة قبل اتخاذ أي قرار، صحيح أن وجود البرلمان الوطني يمثل هموم كافة أطياف ومكونات الشعب لكن وجوده داخل المنظومة الحكومية يمنعه من رصد تحركات كافة الأجهزة الحكومية بعكس منظمات ومؤسسات المجتمع المدني التي تعمل عادة خارج الساحة وتتمتع بمساحة واسعة من الحركة ورصد تحركات وما يدور في اروقة الدولة ومؤسساتها السياسية والاقتصادية. وحتى تقوم تلك المؤسسات بأداء دورها الفاعل لا بد لتلك المؤسسات من توحيد صفوفها ومراجعة برامجها ووضع خدمة العراقيين فوق المصالح الضيقة حتى تشعر الهيئة الحاكمة بأنها تتحمل جزءا من العبء الوطني في بناء مجتمع عراقي جديد. وأزاء هذا الالتزام ستجد الحكومة الجديدة نفسها ملزمة باتخاذ موقف جاد من تلك المنظمات بعيدا عن الوصاية والارتباطات الرسمية، وليس معنى هذا ان تكون عشوائية أو منفلتة. وفي ضوء هذه الرؤية والتفاهم ستنشأ منظمات مجتمع مدني تتبنى عملية بناء عراق جديد يدا بيد مع المؤسسات الحكومية على ان تلتزم الحكومة بعملية تمويل هذه المنظمات حتى لا تضطر لقبول الدعم الخارجي الذي يخدش وطنيتها. أن الشعب العراقي الذي قدم القوافل تلو القوافل من أبنائه البررة طيلة العقود السود من تاريخ الدكتاتوريات المتعاقبة وتطلع الى عملية التغيير واجدا فيها متنفسا للحرية متأملا قطاف جني ثمار الديمقراطية لجدير بالمساهمة الفعلية في صنع القرار وهو قادر على خوض هذه التجربة بعدما غيبته السلطات السابقة وهمشت دوره. صحيح أن الكتل السياسية المشتركة في العملية السياسية ترى أفكارها وبرامجها السياسية أقرب الى الواقع. ومن الطبيعي ان تعتبر شعاراتها أصدق الشعارات المطروحة، وأنها الأقرب لتطلعات الجماهير وتحقيق آمالها، ولكن هذا لا يعني تجاهل الرأي العام وتهميش دوره الوطني تحت ذريعة أن القيادات أقدر على اتخاذ القرار الأصوب، فهذه الذريعة وحدها كافية لانتاج دكتاتورية القرار حتى في النظم الديمقراطية وربما أدت الى التطرف السياسي والذي بدوره سينتج معارضة سلمية قد تتأزم في حالة إصرار الطرف الآخر على آرائه والتمسك بها فتتحول الى معارضة مسلحة تشق الصف الوطني وتثير حالة من التناحر والاحتراب.
أن مناداة الجميع بضرورة اعادة بناء العراق، واصرارهم بالسير في عملية التغيير من ترسيخ الديمقراطية يحتم ترجمة الأقوال الى صدق في المواقف وواقع ميداني على الساحة، وهذا لا يتم ولا يتحقق ما لم تتظافر جميع الجهود، وعدم إهمال أي رأي أو تهميش أي صوت. لا شك أننا أمام تجربة جديدة، وثقافة لم نستطع ممارستها منذ عقود بسبب سياسات النظم الدكتاتورية وتغييبها لدور الجماهير لكن هذا لا يمنعنا من تبنيها وممارستها كحق طبيعي مشروع، كما أن حصول فوضى في بعض السلوكيات واضطراب في نشاط ما مسألة طبيعية تصاحب جميع التحولات في العالم ولا تعني جهلا مطبقا واعتيادا على النظم الدكتاتورية بقدر ما تبرزه من شدة الضغوط والممارسات التعسفية التي رزحت تحت نيرها الجماهير، فتفجرت مع حصول أبسط متنفس لتخفف وطأة الغليان المكبوت طيلة تلك العقود السود.
أن الإستماع للرأي العام واشراكه في العملية السياسية يعطيها زخما جديدا ويضيف لقادتها قوة ومنعة كون الجماهير تنشد وتعمل وتدافع بقوة في حالة شعورها بالاشتراك في القرار السياسي، وبعكسه تظل بعيدة متفرجة تتحين الفرص لالحاق أسباب أي فشل على عاتق القيادة السياسية، ناهيك عن تحول تلك الجماهير- بمرور الوقت وطول المدة- الى هياكل ضعيفة وارادات منقادة تتقاذفها التيارات الهدامة والأفكار التخريبية المحلية والخارجية، وتحت أساليب الترهيب والترغيب تسقطها في فخاخها جاعلة منها معاول هدم وتخريب بدل ان تكون سواعد أعمار وتشييد.
أن الجماهير العراقية الصابرة تتطلع الى دور مشرف ومتميز في عملية بناء العراق الجديد لأنها الغاية والوسيلة، ولأنها تحملت النصيب الأكبر من ظلم واستبداد السلطات السابقة، ونالها الثقل الأوفر من التركة الثقيلة لتلك السلطات. ومن الاجحاف ان تظل هذه الجماهير وقودا لطواحين الساسة دون ان تتمتع بأبسط حقوقها المشروعة.