19 ديسمبر، 2024 9:32 م

لا تكونوا سندا للفساد وعونا للفاسدين

لا تكونوا سندا للفساد وعونا للفاسدين

 

تحدد التشريعات النافذة كل ما يتعلق بأساليب وإجراءات إدارة شؤون الدولة ، المستندة إلى أسس وقواعد الدستور ، المستمدة مضمونها وشرعيتها من قيم ومبادئ وأعراف مجتمع الدولة وفلسفتها الفكرية ، المؤسسة للقانون المعرف ب ( مجموعة من قواعد السلوك العامة المجردة ، المنظمة للعلاقات الإجتماعية بين الأشخاص ، والمقترنة بجزاء مادي تفرضه السلطة العامة على من يخالفها ) ، وبالتالي فإن القاعدة القانونية التي يتكون القانون من مجموعها ، تشكل خطابا موجها إلى الأشخاص ، يشعرهم بترتيب نتيجة معينة على حدوث واقعة محددة ، إبتغاء ضبط النظام في المجتمع ، وتحقيق الإنسجام بين روابطه ، وهي بذلك قاعدة سلوك إجتماعية عامة مجردة ملزمة ، تنظم الروابط بين الأشخاص في المجتمع ، وتحدد سلوكهم وتفرضه عليهم ، وتشيع روح النظام فيما بينهم وتتولى إدارتهم ، وتتبع قوتها الملزمة بالجزاء المادي الذي تفرضه السلطة العامة على من يخالف أحكامها ، وعليه فإن النظام القانوني هو ( مجموعة القواعد القانونية ، المتميزة بالتماسك فيما بينها ، وبالثبات في تطبيقها ، والتي تهدف إلى تحقيق غرض معين مشترك ) ، وهو بذلك لا يضم قواعد متباينة عن بعضها من حيث الغرض ، أو متهالكة على بعضها دون رباط وثيق يشد مجموعها ، بل يتضمن قواعد قانونية تحكم وقائع محددة ، وبذلك فإن القانون الإداري هو الذي يحكم الإدارة من حيث تكوينها ونشاطها ، ويتولى أمر تقسيماتها وفروعها ، وتعيين العاملين فيها وكيفية إدارتها لمرافق الدولة ، ويضع الضوابط الملزمة لموظفيها ، والحدود التي على الإدارة عدم تجاوزها ، باعتبارها السلطة العامة المخولة بتنفيذها .

إن ترك القواعد المنظمة لإنجاز الأعمال لاجتهادات الأفراد واللجان غير المتخصصة ، لا يؤدي إلا إلى الفوضى وعدم الإستقرار الإداري ، وإذا كان القانون ضروريا لقيام المجتمعات ، فإنه ضروري لتحسين أوضاعها ورفع مستواها ، ولا يتحقق ذلك إلا بوجود قواعد سليمة ترسم خطة سيره التي فيها من أسباب الإرتقاء ، ما يجعله عند تقادم الزمان والمكان أكثر ضرورة للحياة والمجتمع ، وليكون وسيلة للحفاظ على النظام الإجتماعي ، وطريقا للخدمة العامة والأداء المتميز بنوعيته ، وسبيلا لتحقيق العدالة الإجتماعية للمواطنين ، ومن الطبيعي أن تخضع التشريعات لمتطلبات قوى التغيير المرافقة للأسس الفكرية والفلسفية للدولة ، والتوجهات السياسية للحكومات المتعاقبة القائمة على التنفيذ بمختلف الوسائل والأساليب ، إلا إن التخبط والتعقيد الإداري يظهر جليا ويزداد تشوها ، كلما أخفقت الدولة في ترشيد هياكل أجهزتها الإدارية ، وساقها توسعها غير المنضبط بحدود الحاجة الفعلية من الأجهزة والموظفين ، إلى تردي مستوى الخدمات للمواطنين ، مما يستلزم اللجوء إلى خطة تنموية فاعلة ، تستدعيها ضرورات التحول والتغيير ، لتشخيص العقبات القانونية والمعوقات الإدارية ، والعمل على تذليلها وإزالة ما يمكن إزالته ، بصيغ التعامل المتبادل للخبرة العملية والممارسة الفعلية ، بدراسة كل ما يؤدي إلى قتل حركة الدولة وإنسانية معالجتها ، ووضع الحلول المناسبة لها ، ولأن العلاقة الإدارية بين الحكومة وموظفيها علاقة تنظيمية عامة ، تحكمها القوانين والأنظمة ، فإن العاملين في القطاع العام يخضعون لقواعد قانونية متصلة بتنظيم الوظائف العامة ، التي تحدد المركز القانوني بما يضمن أداء الواجبات واكتساب الحقوق في جميع المجالات والحالات ، وإذا كانت المناداة لتصحيح الإنحرافات الإدارية والمالية ، والقضاء على مظاهر الفساد العام أو تقليص حجم تأثيره أمرا دعائيا ، لا يهدف إلى حماية المصلحة العامة وخدمة المواطنين ، بسبب إبتعاد الدولة وتراجعها عن دورها في تقديم الخدمات وإشباع حاجات الناس ، فإنها في مفهوم الإصلاح والتغيير الحقيقي ، عمل مخلص ودؤوب ، يشجع الدولة على تغيير مسارها ، ويعيد لها هيبتها بعد كبوتها ونهوضها من غفوتها ، لأن المسؤولية القانونية والإدارية ليست هواية يمارس فيها الحق والباطل على حد سواء ، إنما هي ميزان حكم عادل ومنصف ونزيه ، يغير توجهات الموظفين ويدفعهم إلى بذل المزيد من الجهد والمثابرة ، لتأكيد صفاتهم الوظيفية الحميدة ، التي يُشَرِفون بها كل مواقع العمل التي نهضوا بأعباء مسؤوليتها ، وتحملوا إصر ومعاناة تداعياتها من أجل خدمة المتطلعين إلى دقة إنجاز معاملاتهم بأقل جهد ووقت وكلفة .

إن التغيير في المفاهيم الفكرية ، يقتضي إيجاد كادر إداري قادر على فهم مسؤولياته ، مع إيجاد صيغ بديلة عن تلك التي كانت وما تزال مثار الشكوى والتذمر ، وإذا كانت الصيغ الإدارية محكومة بنصوص قانونية ، فلا مناص من تغيير تلك النصوص بما يؤمن إيجاد الصيغ البديلة المناسبة والسليمة ، لأن الإجراءات الإدارية ، آليات كشف لاستحقاقات وظيفية ، ما لم تتعارض مع روح التشريعات النافذة ، أو تلحق الضرر ببيت المال العام ، وهي بذلك ليست أمرا مقدسا ، كما إن تغييرها ليس أمرا مستحيلا ، وإذا كانت الرغبة غير قائمة لدى من لا يرغب في الإصلاح والتغيير ، ظنا منه في ديمومة مركزه الوظيفي أو المحافظة على ما حققه من مكاسب مؤقتة وآنية في غفلة من الزمن ، فإن وضع أساسيات نهوض الجهاز الإداري ، وجعله قادرا على تحمل مسؤولياته بكل أمانة وحزم ، على الرغم مما تم تخريبه ولم تتم معالجته ، أمر تحتمه مقتضيات المصلحة العامة والعليا للوطن والمواطن ، من منظور أن الوظيفــة أداة عمل ووســـيلة تنفيذ ، والخير فيمن شرفها ، لا بمن فيها تشرفا .

ويبدو أن كشف ما يثقل كاهل الملاك الحكومي من عدد الموظفين بدرجة وكيل وزارة وخاصة ومدير عام ، وكذلك عدد الموظفين في دوائر الإمتيازات ، لم يساعد على معالجة ما تنوء بحمله خزينة الدولة من مقادير الرواتب والمخصصات والإمتيازات التي يتقاضونها ، التي ينبغي ثباتها على قواعد النفع العام ، وحسن توزيع الثروات وتحقيق العدالة الإجتماعية ، بغية توفير الأموال اللازمة لتأمين فرص العمل الإنتاجي وتشغيل العاطلين ، بدلا من إصابة جسد السلطات الإدارية بأدران الترهل والإنتفاخ غير الحميد ، الذي يتوجب أن يفهمه المسؤلون مهنيا ، قبل التمسك بفهمهم الخاص لأغراض سياسية ودعائية مقصودة من وجهة نظرهم ، إلى الحد الذي جعل من تداول كشفه بالوسائل المخالفة لحقيقته ، مصدر إضعاف لعناصر محاربة الفساد ، كما جعل من الفاسدين أقوياء لضعف المتصدين لهم مهنيا ، وما ذلك إلا بفعل تأثير التوجهات السياسية على إشغال المراكز الوظيفية والإستحواذ عليها ، على وفق أسس المكافأة والمحاباة التي تنتهجها السلطة الحاكمة لأتباعها ، ولأن حتمية محاربة الفساد تقتضي إعتماد الدقة والعلمية والأسبقية في طرح المواضيع وعدم خلطها مع بعضها ، فإن مما يجب الحرص عليه وتفعيله ، يكمن في عدم إبداء الرأي ووجهات النظر غير المستندة إلى نصوص التشريعات النافذة ، أو وقائع الأحداث الجارية تحت تأثير العواطف والأهواء المنقادة لرغبة الثرثرة ومجرد الكلام ، لأن في ذلك من حيث لا يعلم المتحدثون ، نصرا وتأييدا لما يحاربون وهم لا يشعرون ؟!.

أحدث المقالات

أحدث المقالات