عندما تزداد ضغوط الحياة عليك ، تحاول أن تخفف من المك وتضمد جراحك ، فتتذكر الماضي السعيد وكيف كنت المبجل والمعظم والعزيز . إن حالة الحنين للماضي هي حالة طبيعية ، ولكن الشئ الغير طبيعي ، هو محاولة ايقاف عجلة الزمن ، والعناد والاصرار على التمسك بالماضي فقط .
إن مايحصل في العراق اليوم هو حالة طبيعية جداً للصراع على السلطة بين المكونات الاثنية والقومية ، فحتى لو وضعنا تنظيمي داعش والقاعدة جانباً ، واخرجناهما من المعادلة السياسة وافترضنا عدم وجودهما اصلاً ، فلقد كان من الطبيعي أن تصطدم حكومة بغداد إن عاجلاً أو آجلاً مع اهالي الانبار .
لنرجع للقصة من أولـهـا ، منذ ايام الدولة العثمانية كان لأبناء الانبار تطلعات ثقافية وسياسية واسعة ، وإن لم تسنح لهم الفرصة لصعود السلم الوظيفي في العهد العثماني ، فلقد اتاحت لهم المدارس التي انشأت في مناطقهم في العهد الملكي الفرصة للأرتقاء والصعود . منذ بدايات ايام الملكية تطوع الكثير من ابناء المحافظة للخدمة في الجيش العراقي ، وعدد لايستهان به من كبار ضباط الجيش العراقي قبل عام 1958 ، ترجع اصولهم الى راوة وحديثة وعانة والفلوجة . بالمقابل انخرط عدد كبير من ابناء الانبار في مدارس الدولة وتخرجوا من كلياتها المختلفة ، فكان منهم الطبيب والصيدلي والمهندس والمحاسب والمحامي ، ثم تعينوا في مختلف دوائر الدولة العراقية وتدرجوا في السلم الوظيفي طوال عشرين عاماً أو اكثر . بعد قرابة اربعين عاماً من تأسيس الدولة العراقية ، كان ابناء الانبار اضافة للتكارتة وبعض السوامرة والدوريين قد هيمنوا على جزء كبير من المناصب العليا لدوائر الدولة ومؤسساتها ، وبمجرد وصول ابن الفلوجة (عبد السلام محمد عارف) لقمة السلطة ، صارت اغلبية الدوائر والوزارات بيد عـفـتره ، وهي مختصر اسماء عانة ، الفلوجة ، تكريت ، راوة ، هيت ، وحرف الراء يعني الرمادي كذلك ، ومعهم كان ابناء حديثة والدور وسامراء .
كانت نسبة ابناء محافظتي الانبار وصلاح الدين تشكل اقلية حتى بين السنة ، لكنهم ثابروا واجتهدوا وتدافعوا مع غيرهم للوصول الى مقدمة الصفوف سواء في الدوائر المدنية أو العسكرية ووصلوا ، وعندما تسلم حزب البعث السلطة عام 1968 لم يجد في الامر حيلة ، وكان عليه التعاون مع ابناء الانبار حتى لو كانوا من غير البعثيين اعجبه ذلك أم لم يعجبه .
عمل الكثير من التكارتة وعلى رأسهم صدام حسين ، على اقصاء غير التكارتة والدوريين عن الحكم والسلطة ، لذا صار ابناء الانبار يحتلون المرتبة الثانية ثم الثالثة في آخر ايام حكم البعث ، وعندما سقط نظام البعث عاد ابناء الانبار ليطالبوا بحصتهم السابقة في الحكم او بجزء منها ، في الوقت الذي تجاوز الزمن ايام عفترة ولم يعد بالامكان اعادة هيمنتها على دوائر الدولة .
قد يتسائل البعض عن السبب الذي جعل ابناء الانبار في المقدمة ، واين كان ابناء بقية المحافظات خلال العهد الملكي ومطلع العهد الجمهوري . اما في الارياف وخاصة في محافظتي واسط وميسان فلقد كان هنالك امراء اقطاعيون منعوا ابناء الفلاحيين من التعلم ، فهم يريدون قطيعاً من الاغنام البكماء . واما في المدن فلقد كان معظم الناس فقراء ، لذا فقد اتجه الكثير من الشباب لتعلم مهن يدوية تدر المال عليهم ، ومع ذلك استطاع عدد لابأس به من ابناء الطبقة الوسطى في الموصل وبغداد والبصرة والفرات الاوسط من اكتساب العلم والمعرفة ، ولكن قلة منهم هم الذين اكملوا الدراسة الثانوية ، وغالبيتهم اعتادوا العمل في مهن ومحلات ابائهم ، فلم يرغبوا بالتعيين في دوائر الدولة .
منذ مطلع العهد الملكي كان هنالك خلل واضح بين اصول الموظفين العراقيين مع نسبتهم السكانية ، فلقد ورث العراق كل ضباط وموظفي الدولة العثمانية عدا بعض الشراكسة والاتراك الذين فضلوا العودة الى تركيا ، وكان كل ضباط الدولة العثمانية من السنة ، أما الموظفين المدنيين فغالبيتهم كانت سنية مع عدد قليل من اليهود والمسيحيين ، ونادراً ما كنت تجد موظفاً شيعياً يعمل لدى الدولة العثمانية .
عمل النظام الملكي على سد هذه الفجوة الكبيرة ، وعمل الكثير من رجالاته مثل رستم حيدر على تشجيع ابناء الشيعة على دخول المدارس والخدمة في دوائر الدولة العراقية ، وبعد اربعون عام وقبل تسلم حزب البعث للسلطة ، كان ثلثا موظفي الدولة من الشيعة ، لكن معظمهم كانوا من ابناء المدن وخاصة من بغداد والبصرة والفرات الاوسط ، في حين ظل ابناء الفلاحين بعيدين نسبياً عن الوظائف لأنهم لم يتحرروا إلا عام 1958 من نير الاقطاع .
* عندما وصل البعثيون الى الحكم كان لديهم جهاز امنهم الخاص وكان يسمى تنظيم حنين ، هذا الجهاز استلم مديرية الأمن العامة ، فصار مديرها هو ناظم كزار القادم من لواء العمارة (محافظة ميسان) .
لقد كان ناظم كزار واحداً من اكثر المحققين شراسة ووحشية في التحقيق مع الشيوعيين وانتزاع الاعترافات منهم ايام حكم البعث عام 1963 ، وقد ادرك إن ضبط الأمن بصورة صحيحة بحاجة الى مئات من المخبرين والوشاة الذين ينقلون كل شاردة وواردة من ادنى العراق الى اقصاه ، ولذا فقد جند الالاف من مختلف المحافظات والاقضية والنواحي من الشيعة والسنة والمسيحيين والصابئة ، بحيث لم تكن تخلو قرية أو ناحية من فراش أو جايجي أو كاتب أو راعي غنم يكتب التقارير الدورية ويرسلها لامن المنطقة . اما في بغداد فلقد كان معظم من جندتهم الامن العامة من ابناء الفلاحين المهاجرين من المحافظات الجنوبية ، ومن الطبقات المدنية الشعبية القابعة في قعر المجتمع ، فهولاء اكثر وفاءً واخلاصاً لمن يطعمهم ويلبسهم ويعطيهم وظائف (ولو متواضعة) ليصبحوا افندية ، في حين وضع جهاز الأمن علامة استفهام على ابناء الطبقة الوسطى وخاصة المثقفيين منهم ، فرجال الأمن عادة يكرهون الثقافة والمثقفين .
اتهم ناظم كزار وجماعة من كبار رجال الامن بمحاولة قلب نظام الحكم عام 1973 ، لذا فقد تم اعدامهم وتدمير مقر الأمن العامة الواقع بعد معرض بغداد الدولي بأتجاه المأمون وقبل عبور جسر نهر الخر نحو ساحة النسور ، وهذا المقر كان بالاصل قصراً لعبد الآله خال الملك فيصل الثاني وكان يسمى قصر الرحاب ، لكنه على ايام ناظم كزار سمي بقصر النهاية ، حيث إن من يدخله لا يخرج منه حياً حسب ماكان يشاع يومها .
رغم اعدام ناظم كزار والتخلص من مساعديه ، فلقد استمرت سياسة حزب البعث تنتهج نفس المنهج السابق ، لذا فقد تم تجنيد المئات سنوياً في الأمن والمخابرات ، وضم الوف العمال والطلبة والموظفين الى حزب البعث ، ثم ازدادت الاعداد تدريجياً بالتصاعد حتى وصول صدام حسين الى كرسي الرئاسة . في مطلع الثمانينات شنت الاجهزة الحزبية حملة شاملة لضم جميع ابناء العراق للحزب وذلك عبر الترغيب والترهيب ، وضم طلبة مدارس متوسطة واعدادية بالاكراه للحزب ، وتم تهديد الكثير من جنود الوحدات الثابتة اثناء الحرب العراقية الايرانية بالنقل الى خطوط الجبهة في حالة رفضهم الانتماء للحزب ، وقد تضخم جهازي الامن والمخابرات العامة بشكل مرعب خلال الحرب العراقية الايرانية ، فصار سائق التاكسي وصباغ الاحذية وبائع الجرائد بل حتى بعض الشحاذين الذين يدعون الجنون هم وكلاء أمن يكتبون التقارير بصورة يومية تقريباً ، ولو اجري احصاء لعدد البعثيين عام 1990 لتبين إن ثلثي الشعب كان منتمياً للحزب ، ولولا حرب الكويت التي دمرت اسلحة الجيش العراقي واضعفت سـطوة الدولة المركزية وهيمنتها ، لأجبرت الدولة جميع المواطنين على الانتماء للحزب ، حيث لم يكن شعار ( كل العراقيون بعثيون وإن لم ينتموا ) شعاراً عبثياً .
بعد عام 2003 جاءنا رجل قضى خمس واربعون عاماً من حياته خارج العراق ، ولا يكاد يعرف شيئاً عن احوال المجتمع العراقي وشؤونه الداخلية ووضع لنا قانون اجتثاث البعث ، وهنا هي المهزلة … نجتث من ؟؟ ، فوزارات مثل النفط والخارجية والداخلية والدفاع ابتداءً من الوزير حتى اصغر حارس أوفراش كلها تنتمي لحزب البعث ، ووزارات مثل التربية والتعليم العالي ثلثيها من البعثيين ، والكثير من الكوادر العليا للحزب وبرتبة عضو قيادة شعبة أو عضو قيادة فرع هم قيادات شكلية لايحلون ولا يربطون ، فالقيادة كلها كانت بيد صدام وبيد الاجهزة الامنية التي كان يقودها برزان وسبعاوي ، وبعدهم يأتي اعضاء القيادة القطرية ومدراء الامن والمخابرات .
لقد عمل قانون اجتثاث البعث على حفر خندق عميق واحداث فجوة في مستقبل الشعب العراقي ، وخاصة عندما طبق بطريقة انتقائية او عشوائية ، فصار اشبه بأجتثاث البعثيين السنة ومن لم يطأطأ رأسه للزعمات الجديدة من الشيعة ، وقد تأثرت محافظة الانبار بشدة من هذا القانون ، وخاصة بعد حل الجيش العراقي وعدم اعادة ابناء الانبار للجيش العراقي الجديد ، كما تأثرت الانبار بسبب القلاقل والاضطرابات الحاصلة في سوريا ، حيث إن تجارتها مع سوريا قد توقفت ، وبالتالي تجمعت عدة عوامل اقتصادية وسياسية مشتركة ودفعت اهل الانبار دفعاً لأعلان اعتصامهم الذي استمر قرابة عام كامل .
لقد كان بأمكان حكومة بغداد أن تفاوض اهل الانبار منذ تسعة اشهر ، لكن ولاة الامر لدينا يؤمنون بالمثل القائل ( السلطة والزوجة لايمكن قسمتهما على اثنين ) ، وعقلية صدام العشائرية مازالت تعشعش في عقول القيادات الجديدة ، ولم يستوعبوا بعد إن العراق هو دولة وليس تجمعاً عشائرياً ، وإننا نعيش في القرن الحادي والعشرين وليس في القرن الحادي عشر . كما إن البعض مازال متأثرأً بشدة بنظام حزب البعث ، وما زال يظن إن اساليب صدام حسين في قمع انتفاضة الجنوب عام 1991 واقصاء المعارضين والمخالفين ، هي الطريقة المثلى للتعامل مع اهل الانبار ، فالبعثيون القدامى ما زالوا بيننا وإن غيروا اقنعتهم القديمة ، ولا ادري ما معنى وجود قانون لاجتثاث البعث وقد تم وضعه على الرف بعد افراغه من مضمونه ومحتواه .
واخيراً ، إن الصراعات الحالية في العراق يمكن تلخيصها كالآتي : لاتكول شيعة سنة ، هذا الحكم كاتلنا ، والسكملي بس النا ، ودمتم للنضال .