إياك أن تعود إلى مواطن الفرح القديم، إلى تلك الزوايا التي خبأت فيها ضحكاتك الأولى، أو الأرصفة التي شهدت ارتباكك الأول أمام الحياة، أو البيوت التي تركت فيها بعضاً من دفء قلبك… ؛ فثمة خدعة ماهرة اسمها الحنين، تتواطأ فيها النفس مع الخيال، وتخونك بها الذاكرة، لتصوّر لك أن كل ما مضى كان أجمل، وأن العودة إليه ستحييك من جديد… ؛ لكن الحقيقة أكثر قسوة، وأكثر صدقاً أيضاً: ما غادرته لن يعود كما كان، ولا أنت الذي كنت.
إن الزمن لا يرحم؛ بل هو أشد الامور فتكا بالثوابت… ؛ فهو يعيد تشكيل الوجوه، ويعيد هندسة الأمكنة، ويقلب القلوب ويبدل الطباع ويغير ترتيب الأولويات… ؛ بالأمس كنت ذلك الصبي المفعم بالحياة، تضحك في حضن المدرسة، أو تتأمل أول حب من بعيد… ؛ أو تشارك الجنود في الجيش فتات الخبز والسهر، أما اليوم، فأنت تعود إلى نفس الدروب بعين مختلفة، بروح متعبة، محمّلة بالانتظارات والعقد والازمات لا الذكريات فحسب .
لا تنخدع ببريق الذكريات، فليس كل ما تتذكره حقيقة، وليس كل ما تشتهيه قابلاً للاستعادة… ؛ اذ إن المشاعر ذاتها تتغير كالأمواج، وما كان يثير فيك الحنين قد يوقظ فيك اليوم الخيبة أو الفقد أو الفتور… ؛ حتى الحجر قد يتآكل بفعل الريح والمطر بمرور الزمن ، فكيف بالأرواح والقلوب والوجوه؟
والأسوأ من ذلك أن الزمن قد يعقد حلفاً خفياً مع الأمكنة ضدك، فيحوّل ما كان لك ملاذاً إلى مصدر ألم، وما كنت تظنه مرفأ حنان إلى مكان لا يعرفك فيه أحد، ولا يحتفل بك أحد، ولا يشبهك فيه شيء… ؛ وقد تعود إلى البيت الذي ضحكت فيه كثيراً، فتجده خاوياً من الحياة، وقد تمرُّ بصديق قديم، فلا يذكرك إلا باسم مشوش أو ملامح منسية.
لا تلتفت إلى الوراء… ؛ و لا تعانق أطلالك، فالوقوف على أنقاض الماضي لا يعيد بناءه… ؛ والحنين الى الماضي أشبه بعطر قديم… , يشبه الذاكرة، لكنه لا يعيد الزمان ؛ فاحتفظ بعبق الذكرى الجميلة واللحظات السعيدة داخل قلبك، نعم، دعه وردةً في دفتر العمر، لكن لا تحاول قطافها من جديد؛ فإنك لن تجد إلا أشواك الغياب والتغير والتبدل … ؛ فأجمل الذكريات هي تلك التي نحبسها في الذاكرة… , لا تلك التي نلاحقها في الخراب .
ثمة لذة خفية في المجهول، في التجدد، في خوض مغامرات لم تعشها بعد… ؛ فالعالم لا يزال يخفي عنك أماكن لم تدُسْها قدماك، ووجوها لم تصادفها عيناك، وأحاديث لم تولد بعد في شفاه الغرباء الذين سيصبحون أحبّاء.
اعلم أن سر السعادة الحقيقي لا يكمن في ترميم ما تكسّر، بل في بناء ما لم يُشيَّد بعد… ؛ فالسعادة ليست في الركض خلف صورة قديمة، بل في التقاط لحظة جديدة بروح حرة… ؛ فلا تجعل قلبك أسيراً لزمن مضى، بل اجعل من كل لحظة قادمة مشروع فرح جديد.