23 ديسمبر، 2024 2:54 ص

لا تستغربوا من معايير الأمم المتحدة المزدوجة

لا تستغربوا من معايير الأمم المتحدة المزدوجة

كغيرنا من الشباب في سبعينيات القرن الماضي ، وهي الفترة التي بدأنا فيها عملنا في المجال الصحفي ، كان اهتمامنا ينصب بتطورات الأوضاع الدولية وفي المقدمة منها قضية فلسطين المحتلة والإجراءات التعسفية للكيان الصهيوني ، والموقف الدولي تجاه هذه الممارسات اللاإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني ، وكذلك دور الأمم المتحدة تجاهها ، ومنذ ذلك الحين وحتى كتابة هذه السطور لم نشهد يوما أي موقف” مشرف ” يحسب للأمم المتحدة ، لا في القضايا العربية ، ولا غيرها ، وكانت ولاتزال تنحاز هذه المنظمة ورؤساءها المتعاقبين على قيادتها ، ينحازون انحيازا تاما الى الولايات المتحدة الامريكية ، ويشاطرونها الرأي في كل القضايا حتى وان كانت هذه الآراء ” خاطئة ” وتضر بمصالح الآخرين ، وذلك انطلاقا من مبادئهم ” ناصروا الولايات المتحدة ظالمة او مظلومة ” .
وبيان وزارة الخارجية الروسية يؤكد حقيقة ما نقوله ، فالبيان اتهم الأمم المتحدة وأمينها العام أنطونيو غوتيريش، بعدم الالتزام بموقف عادل ومحايد، تجاه النزاع في أوكرانيا ، وأن “الأمانة العامة، خلافا للمتطلبات التي يفرضها عليها ميثاق الأمم المتحدة، لا تتخذ موقفا محايدا وعادلا، وليس كما يتوقع المرء من أمانة المنظمة الدولية ان تكون الأكثر موثوقية، وتهدف من بين أمور أخرى، “تسهيل تسوية المنازعات” ، مؤكدة أن المشاركين في اجتماع قيادة القوات الجوية الأوكرانية مع موردين أجانب تم القضاء عليهم بضربة بصواريخ “كاليبر” عالية الدقة.
فالبيان الروسي أكد بما لايقبل الشك حقيقة أزدواجية المعايير لمنظمة الأمم “الامريكية ” ، عفوا المتحدة ، والتي من المفترض ان تكون دولية ، لم تكلف نفسها ، او يحرك أمينها العام ” قفاه ” ، ليستفسر عما حصل وسيحصل في أوكرانيا ، ولم يطلب من أوكرانيا شرح السبب الذي يجعل نظام كييف وضع منشآت عسكرية على مقربة شديدة من المنشآت المدنية ، وتعمده ( أي الأمين العام ) ، مثل العديد من الممثلين الآخرين في المنظمة الدولية، عدم ملاحظة ضربات القوات الأوكرانية الصاروخية المتعمدة على أهداف مدنية ومناطق سكنية في المدن ، رغم ان من يقطن هذه المناطق من المفترض ان يكونوا مواطنين أوكران أيضا !! ، ناهيك عن قصف الجيش الأوكراني لمقاطعتي كورسك و بيلغورود الروسيتين ومنطقة نوفايا كاخوفكا الخاضعة للجيش الروسي جنوب أوكرانيا.
فمثلا وليس للحصر وقبل أيام ، دوى صوت انفجار كبير طال مدينة نوفايا كاخوفكا ( الأوكرانية ) والتي هي الان تحت سيطرة الجيش الروسي ، انفجار كانت قوته مماثلة للانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت ، ووفقا لوزارة الداخلية المحلية ، فقد طلب حوالي 190 شخصا المساعدة الطبية، واللافت للنظر ، أن لا أنطونيو غوتيريش ولا ممثله الرسمي ولا أي شخص آخر، ولا حتى أعضاء مجلس ( الأميين ) الدائمين لم يدينوا الهجوم على المدنيين والبنية التحتية المدنية ، بالإضافة الى المناطق المدنية التي تتعرض لها المدن في الجمهوريتين المستقلتين من جانب واحد لوغانسك ودونيتسك ( معترف بهما في روسيا وكوريا الشمالية ) .
المعروف ومنذ تأسيس الأمم المتحدة، كانت من المفترض أن تكون بداية عملية ترسيخ قواعد القانون الدولي ، بما في ذلك مبدأ احترام سيادة الدول ، وحظر استخدام الأسلحة ، ومحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب والعدوان في البلاد ، أي منطقة في العالم ، ومبدأ المساواة هو أحد أهم مبادئ القانون الدولي ، وكذلك حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية ، وحق الشعوب في تقرير المصير واحترام حقوق الإنسان دون تمييز على أساس الجنس أو الدين ، العرق أو اللغة ، لكن للأسف لم يحصل هذا .

ومن جديد وقعت الأمم المتحدة في تلك الازدواجية المقيتة ، وكشفت الأزمة الأوكرانية الحالية عن حجم الفجوة في التزام الدول بقرارات الأمم المتحدة ، من حيث اعتمادها وتنفيذها ، وذكّرنا جميعاً بأن المجتمع الدولي بحاجة إلى قانون دولي يطبق على جميع الدول ، وأن يتخلى أخيراً عن سياسة الكيل بمكيالين ، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بالتنفيذ الفوري للقرارات الدولية المتعلقة بالعديد من القضايا المشروعة ، فمثلا وعلى مدى 75 عاما الماضية ، لم يطبق قرار دولي واحد على قوات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ، فالقوى الرئيسية التي تسيطر على الأمم المتحدة ومؤسساتها انتقائية وانتقائية للغاية في هذا الشأن.
والحمد لله لم نكن الوحيدين في توجيه اللوم الى الأمم المتحدة ، بأتباعها معايير مزدوجة ، والتي باتت مكشوفة حتى لأبسط الناس ، خصوصا ، تجاه القضايا التي تتعارض ومصالح الولايات المتحدة ، بل يشاطرني الرأي أيضا الدبلوماسي الإيطالي توركواتو كارديللي ، الذي نشر مقالته على مدونته من قبل مؤسس Five Star Party ، Beppe Grillo ، فقد أكد أن سياسة الكيل بمكيالين في الغرب أصبحت عادة راسخة في العلاقات الدولية مع كل من الحلفاء والخصوم ، وأصبحت الأمم المتحدة مركزًا للتلاعب السياسي ، وأشار إلى أن ميثاق الأمم المتحدة قد تم انتهاكه طوال فترة وجوده من أجل الحفاظ على النفوذ أو كسبه ، وأشار إلى كيفية استخدام سياسة الكيل بمكيالين ضد صربيا والعراق ، ويكفي التذكير بموقف الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من قضية انفصال كوسوفو على حساب صربيا التي تعرضت عاصمتها بلغراد لقصف مكثف من قبل الحلف الغربي حتى استسلامها ، و أن الغرب ، سواء في الحكومة أو في وسائل الإعلام ، أو الأمم المتحدة ، قد اعترض على شدة الدمار ولم ينتقد لعدم وجود أي شفقة على الضحايا من المدنيين الأبرياء .
وكذلك السفير الارتيري في روسيا بيتروس سيغاي ، في حديثه لصحيفة المجلس الروسي للعلاقات الدولية ، يقف هو الاخر ضد المعايير المزدوجة والعقوبات واستخدام الأمم المتحدة ، ويرى مرارًا وتكرارًا سياسة الكيل بمكيالين فيما يتعلق بالعراق وليبيا ويوغوسلافيا وأفغانستان ، وبالطبع فيما يتعلق بإريتريا ، والتي برأيه ومنذ الاستقلال ، تتعرض لعقوبات بسبب معارضة دول العالم المهيمنة ، بالإضافة إلى ذلك ، فإن العقوبات المفروضة على بعض البلدان الأفريقية لا يتم تحديدها إلا لأن مواردها الطبيعية مطلوبة في الأسواق ، ولكنها مملوكة للحكومات الوطنية ، ويشدد على ضرورة إصلاح الأمم المتحدة – وأن تتمتع كل دولة بحقوق متساوية دون أي معايير مزدوجة.
وما دام الحديث عن ازدواجية الأم المتحدة، فلا بد في هذا المقام أن يذكر العراق، وما حدث له من قتل وتدمير وتهجير ملايين العراقيين ، ونهب ثرواته ، واسقاط نظامه السياسي ، وتدمير جيش عضو في الأمم المتحدة ، ولم يسلم فيه لا البشر ولا الحجر من التدمير ، كل هذا كان برعاية وتأييد وأمام أنظار الأمم المتحدة ، ومجلس ” الخطر ” وليس الأمن ، والأمناء العامين للأمم المتحدة ، شاركوا في هذه الجريمة الدولية ، ودعموا كل الافتراءات التي قدمها ( الشيطان الأكبر ) والتي اثبتت فيما بعد ، بأن كل ما قدم من مبررات لغزو العراق هي ( كاذبة ) ، ولم تحرك هذه المنظمة الدولية أو أمنائها ، ساكنا تجاه أمريكا وحلفائها ، وتقديم المجرمين الى المحاكم الدولية ، على الجرائم الكبيرة التي ارتكبت في العراق وبقية البلدان .
إن سجل الجرائم الامريكية والغربية وحتى الأوكرانية في العراق كبير ، ويندى لها الجبين ، الا جبين الأمم المتحدة وامنائها العامين ، وتحتاج هذه الجرائم الى مجلدات عديدة لتوثيقها ، وكل واحدة منها تحيل مرتكبيها لا الى المحاكم الدولية ، بل الى مقصلة الإعدام المباشر حتى دون محاكمة لبشاعتها ، وسنحاول ذكر بعض منها في هذه السطور ، والتي حتما لا توفي حجم هذه الجرائم ، لأنه ما من عراقي ينسى جريمة ( ملجأ العامرية ) الذي قصفته الطائرات الامريكية بقنابل تم تجربتها على هذا الملجأ ، والذي كان يحتمي داخله اكثر من 400 من الأطفال والنساء وكبار السن ( وليس مقرا للقيادة العراقية كما زعموا ) ، ليحولوا كل من في داخله الى أشلاء متفحمة ، أمام انظار المجتمع الدولي ، ناهيك عن جريمة قصف احد الطيارين الامريكان جسر الناصرية المكتظ بالناس العابرين من خلاله ، لينفذ وبدم بارد اكبر جريمة بشرية عرفها التاريخ وهو فرح بارتكاب جريمته ، وكذلك لا يمكن نسيان جريمة أبو غريب التي صارت حديث البشرية جمعاء ، وسط صمت مطبق من الأمم المتحدة ، لأنها لا تتجرأ على أدانة ( أمريكا ) وجرائمها.
إذن الحديث اليوم يجب ان يكون وعلى مستوى الجميع ، هو التعبير الرافض عن النهج المزدوج للمجتمع الدولي في تطبيق أحكام القانون الدولي ، التي يمثلها الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي فيما يتعلق بالدول الضعيفة والقوية ، وما نشهده اليوم كيف تتصرف الدول حيال الأزمة الأوكرانية وتتخذ إجراءات فاعلة يمكن أن تشجع المؤسسات الدولية على التحرك في وقت قياسي مقارنة بالقضايا الأخرى كالفلسطينية مثلا ، وخير مثال على ذلك سرعة اتخاذ القرار في الأمم المتحدة ضد روسيا ، بينما يواصل الكيان الصهيوني التخطيط لجرائمه البشعة بحق الشعب الفلسطيني ، او جرائم الولايات المتحدة في العراق وسوريا وليبيا والقائمة تطول ، فالقوى التي تتخذ القرارات في مجال القانون الدولي تمارس الازدواجية.
وعلى عكس الوضع في أوكرانيا ، عندما طالب المجتمع الدولي ، بقيادة القوى الكبرى ، بأن يتخذ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارًا ضد العملية العسكرية الروسية الخاصة ، لم يتم اتخاذ أي إجراء فعال فيما يتعلق رفض أوكرانيا مثلا تطبيق مقررات مجموعة ” مينسك ” الدولية ، والتي كانت من المفترض الأساس لحل الازمة الأوكرانية ، ولا حتى على جرائم الحكومة الأوكرانية وقصفها المناطق المدنية ” بهمجية ” واودت بحياة ما يقارب ال( 14 ) الف مدني باعتراف الأمم المتحدة نفسها ، بل تحاول الأمم المتحدة مواكبة الطروحات لتشكيل محكمة دولية ضد روسيا ، تلك المحكمة الجنائية الدولية التي رفض مدعيها عدم مقاضاة السلطات البريطانية على جرائم الحرب التي ارتكبتها قيادتها والجيش في العراق ، وتم ذلك بسرعة البرق عندما أصبح من الواضح أن مواطنًا بريطانيًا سيصبح المدعي العام الجديد.
وفي عام 2021 ، قرر المدعي العام البريطاني الجديد للمحكمة الجنائية الدولية ، كريم خان ، إزالة القضية المرفوعة ضد الولايات المتحدة من قائمة التحقيقات ذات الأولوية ، وعلق ممثل روسيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حينا على سلوك المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ، بالقول “هذه ليست حتى معايير مزدوجة “، ولكنها نوع من ” السخرية اللامحدودة ، وتتحول العدالة إلى مهزلة ” ، ويتم تعيين الجاني مسبقًا ، وقد دفعت طوابع الغرب ثمنها للمحكمة ، ومثل هذه المعايير تجري أمام أنظار الأمين العام ( الذي لا يعرف كغيره ممن سبقوه ، سوى التعبير عن قلقه بشأن هذه الحالة أو تلك ) ، واليوم فان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ، ترك كل ملفات الجرائم الدولية ، ولم يبقي الا على مهمة ما يحدث على الأراضي الأوكرانية ، متناسيا كل الجرائم الأخرى .
وامام هذه التجارب المؤلمة، فانه وبعد مرور 77 عامًا على نهاية الحرب العالمية الثانية، لا تزال العديد من الدول التي تسمي نفسها ديمقراطيات مستقلة والأمم المتحدة ، في الواقع، تحت رحمة التبعية الأمريكية، وإذا استمر المجتمع الدولي في اتباع سياسته الخاصة المتمثلة في الكيل بمكيالين في التعامل مع النزاعات على مقربة شديدة من القوى الكبرى، كما هو الحال حاليًا في أوكرانيا، فإن النتيجة الحتمية ستكون فقدان الثقة في المؤسسات العالمية وفي المقدمة منها الأمم المتحدة .