22 ديسمبر، 2024 1:24 م

لا تتلاعبوا بأسماء المحافظات والمدن العراقية!

لا تتلاعبوا بأسماء المحافظات والمدن العراقية!

عندما يطلع الفرد على كتب الرحالة والجغرافيين القدامى سيجد أن أسماء بعض المدن القديمة تحملها نفس الإسماء الحالية، وقلما جرى هناك تغيير في أسمائها، وهذه حالة صحيحة، فعلى سبيل المثال في مصر تجد مدن القاهرة والاسكندرية واسوان وحلوان وعين شمس وغيرها هي نفس الأسماء التي تُطلق عليها حاليا، قال النويري” بنواحى أسوان من الصعيد الأعلى مستنقعات منها النّفط. وكذلك بتكريت من أرض العراق”. وأضاف” أما مدينة عين شمس فهي من المبانى التى درست”. (نهاية الأرب) وهكذا عن بقية المدن إلا ما ندر.
والثبات على أسماء المدن يُسهل الأمر على الباحثين سيما الأجانب منهم دراسة تأريخ وعمران هذه المدن، وعندما يتغير اسم المدينة الى أسم آخر أو عدة أسماء قد يكون من الصعب متابعة هذا التغيير، سيما عندما يتعلق الأمر بالمدن التأريخية المشهورة. لو تصفحت مثلا كتاب (معجم البلدان) لياقوت الحموي سوف لاتجد صعوبة في التعرف على المدن المصرية القديمة والسورية والمغرب العربي. فكل مدينة سيما الكبرى تحمل إسما له طابع تأريخي مميز أصبح جزء لا يتجزأ من كيانها ومعالمها الحضارية. على سبيل المثال مدينة بابل التي تعتبر رمزا ودليلا بارزا على الحضارة البابلية.
فقد إرتبط إسمها بأشهر ملك عراقي وهو حمورابي صاحب المسلة المشهورة التي تضمنت أقدم تشريعات قانونية في العالم، وقد حكم البابليون للفترة (1793 ـ 1750 ق.م). وترتبط ببابل أيضا بوابة عشتار المحفوظة حاليا في متحف برلين، وبرج بابل الشاهق، حيث كان أهل بابل يعتقدون ان الملوك بإمكانهم من خلال هذا البرج التحدث مع الآلهة.
والجنائن المعلقة التي تعد واحدة من عجائب الدنيا السبع، وقد أفردت مجلة ( The National Geographic Magazine) في الخمسينيات من القرن الماضي عددا خاصا عن الجنائن المعلقة تضمن لوحات في قمة الروعة، وهي نسخة نادرة جدا. وقد وردت أوصاف الجنائن المعلقة في كتابات قديمه منها، ما كتبه الفلكي (برعونا) الذي عاش في نهاية القرن الرابع ق.م، ومنهم المؤرخ ديودور الصقلي وغيرهم. وفي الكتب القديمة تجد معلومات مفيدة عن بابل، فحسب تفسير التوراة ان كلمة بابل جاءت من قول الله” والآن نبلبل السنتهم” في التلمود/78 حيث نسى الناس لغاتهم وراحوا يخاطبون بعضهم بلغات غريبة. كما ذكر أصحاب السير العرب إنما سميت بابل لأن الألسن اختلفت بها وتبلبلت فيها. وأن الملوك والناس اجتمعوا فيها ثم تفرقوا منها”. (كتاب البلدان للهمداني). وأضاف” بابل بناها بيوراسب واشتق اسمها من اسم المشتري. لأن بابل باللسان البابلي الأول اسم للمشتري. ولما بناها جمع فيها كل من قدر عليه من العلماء وبنى لهم اثني عشر قصرا على عدد البروج وسماها بأسمائهم. فلم تزل عامرة حتى خرج الإسكندر فأخربها. وقال الله عزّ وجلّ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ”. (كتاب البلدان للهمداني).
فهل من المنطق واللائق طرح تسمية (مدينة الحسن) على بابل كما طالبت مراجع شيعية؟ وهنا نود أن نبين الآتي:ـ
1. لم يرتبط إسم الحسن بن علي بالمدينة، ولا توجد معلومات تأريخية تشير الى أن الحسن بن علي زار مدينة بابل. فما علاقة الحسن بالمدينة؟ حتى لو إفترضنا جدلا أنه زارها، فهل هذا يستوجب تسميتها بإسمه؟ لو طبقنا هذه القاعدة على الزيارات العامة والخاصة لأئمة الشيعة وغيرهم لهالنا الموقف.
2. عرفت مدينة في فترة حياة الحسن وقبله بقرون وبعده أيضا بصناعة الخمر وتصديره، فقد ورد في سفر أرميا” بابل كاس ذهب بيد الرب تسكر كل الارض من خمرها شربت الشعوب من اجل ذلك جنت الشعو “. (سفر أرميا اصحاح51/7). ويعتبر خمر بابل من أجود أنواع الخمور في تلك الحقب التأريخية. وهذا ما يمكن الإستدلال عليه في الكتب القديمة والأشعار. ذكر ابن خرداذبة ” كان ملك الهند سرنديب يحمل اليه الخمر من العراق ويشربها”. (المسالك والممالك/67). وكان الخمر يصنع في بابل وعانة. وقال أبو هلال العسكري” من غريب ذلك وبديعه قول، ويقال إنه ليزيد بن معاوية:
وكأس سباها التجرُ من أرضِ بابلٍ … كرقةِ ماءِ المزنِ في الأعينِ النجلِ
إذا شجّها الساقي حسبتَ حبابهــــا … عيونَ الدبا من تحت أجنحةِ النملِ
وقال ابن عائشة ينشد:
لما رأيتُ الحظّ حظَّ الجاهلِ … ولم أرَ المغبونَ غيرَ العاقلِ
رحلت عنا من كروم بابـل … فبتُّ من عقلي على مراحلِ (ديوان المعاني)
3. ورد في سورة البقرة/102 ((وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ)). وان الكثير من الرواة إعتبروا بابل مدينة ملعونة، ففي التوراة ورد ” سيف على الكلدانيين يقول الرب وعلى سكان بابل وعلى رؤسها وعلى حكامها”. (سفر أرميا50/36). و” ارسل الى بابل مذرين فيذرونها و يفرغون ارضها لانهم يكونون عليها من كل جهة في يوم الشر”. (سفر أرميا اصحاح51/2) . ومنها” على النازع في قوسه فلينزع النازع و على المفتخر بدرعه فلا تشفقوا على منتخبيها بل حرموا كل جندها”. (سفر أرميا اصحاح51/3). ومنها” اهربوا من وسط بابل و انجوا كل واحد بنفسه لا تهلكوا بذنبها لان هذا زمان انتقام الرب هو يؤدي لها جزاءها”. (سفر أرميا اصحاح51/6).
بل الأغرب منه ما ورد عن علي بن أبي طالب! قال ابو صالح الغفاري” مرٌ علي بن ابي طالب ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذن بصلاة العصر، فلما فرغ قال” ان حبيبي (ص) ننهاني أن أصلي في المقبرة (مقبرة بابل)، ونهاني أن اصلي في أرض بابل فإنها ملعونة”. (سنن أبي داود: كتاب الصلاة). وقال رواة آخرون منهم أبو عبيد البكر” بابل بالعراق مدينة السحر معروفة”. وقال الجوهري” بابل اسم موضع بالعراق ينسب إليه السحر والخمر”. (سنن أبي داود/119).
صحيح أن المشروع الذي إتخذته اللجنة التحضيرية في مدينة بابل بتأريخ 20/6/2016 للإحتفال بولادة الحسن بن علي في مقام (رد الشمس) في بابل لتغيير إسم المدينة الى (مدينة الحسن) قد اجهض بسبب درود الفعل الشعبية حينها، لكن هذا المشروع وغيره من المشاريع ذات البعد الطائفي الواحد، ما تزال تُناقش في كواليس المرجعيات الدينية منذ أن بدأها المرجع الشيعي السابق محسن الحكيم الأصفهاني، مقترحا تسمية كل محافظة من محافظات العراق بأسم أحد أئمة الشيعة.
وهذا ما يقال عن موافقة رئيس مجلس وزراء المنطقة الخضراء في 6/6/2017 بتغيير اسمي محافظتي التأميم والقادسية الى كركوك والديوانية. الحقيقة ان تغيير محافظة كركوك وهو اسم غير قديم قدم بابل (اسمها عند المؤرخين العرب هو كرخيني او خرخيني كما ذكره ياقوت الحموي في المعجم) ولكن تغييره جاء لغرض التمويه ليس إلا، فالأساس هو تغيير إسم محافظة القادسية وفقا لتوجيهات إيرانية معروفة الغاية، فالقادسية إسم مقترن بجرعة السم التي تناولها الخميني وقبلها جده كسرى الفرس على أيدي العرب، قال سنان بن أبي حارثة:
قل للمقوم وابن هنـــــــــــد بعده … إن كنت رائم عزّنا فاستقدم
تلقى الذي لاقى العدوّ وتصطبح … كأسا صبابتهــا كسمّ العلقم (محاضرات الأدباء).
لذا لإبعاد الشبهة عن ولاية الفقيه، تم إضافة محافظة كركوك. مع أن إعادة تسمية كركوك مقبولة رغم إنها إقترنت بقرار تأميم النفط التأريخي عام 1972.
القادسية اسم عربي أصيل يتشرف به أي عربي، ويكرهه كل فارسي شعوبي حاقد على العرب والإسلام، وقد ورد اسم القادسية في الكثير من كتب المؤرخين والرواة والرحالة والشعراء. فليس من المعقول ان يغير هذا الإسم دون موافقة العراقيين جميعا عبر البرلمان او الإستفتاء العام او المحافظة على أقل تقدير، وليس بقرار من العبادي.
فقد ذكر الشريف الادريسي” أما القادسية فهي مدينة على جنب البادية، وهي مدينة صغيرة ذات نخيل ومياه عذبة وأكثر زراعاتها الرطبة، ويتخذ منها القت علفا للجمال الصادرة والواردة في طريق الحجاز ومنها يتزودون علوفاتهم ومدينة القادسية غرب مدينة بغداد، وهي ثغر من ثغور العراق ومن القادسية إلى الكوفة مرحلتان ومن القادسية إلى مدينة السلام بغداد أحد وستون فرسخا”. ( نزهة المشتاق). مضيفا” بالقادسية يصنع الزجاج العراقي دائما ورسمه للمملكة”. (نزهة المشتاق). وقال الحميري” القادسية عند الكوفة، وهي أول مرحلة لمن خرج من الكوفة إلى المدينة ومكة، وهي قرية كبيرة فيها حدائق نخل ومشارع من الماء الفرات، وسميت القادسية لأن قوماً من أهل قادس نزلوها، وقيل إن إبراهيم عليه السلام نزل القادسية، فغسل بها رأسه ثم دعا لها أن يقدسها الله، فسميت القادسية، ثم أخذ فضل الماء فصبَّه يمنة ويسرة فحيث انتهى ذلك الماء انتهى العمران، ثم ارتحل إلى البيت الحرام. وقيل إنما سميت القادسية بقادس، رجل من أهل هراة قدم على كسرى فأنزله موضع القادسية”. (الروض المعطار). وذكر ياقوت الحموي” كان يقال لليوم الأول من أيام القادسية التي قاتل فيها المسلمون الفرس يوم أرماث، ويقال لليوم الثاني يوم أغواث، ويقال لليوم الثالث يوم عماس، وكان اليوم الرابع يوم القادسية، وفيه كان الفتح على المسلمين، ولا أدري أهذه الأسماء مواضع أم هي من الرّمث والغوث والعمس؟ وقال القعقاع بن عمرو يذكر يوم أغواث، وكان أول يوم شهده بعد رجوعه من الشام:
لم تعرف الخيل العراب سواءنا … عشيّة أغــــــــواث بجنب القوادس
عشيّة رحنا بالرماح، كأنهـــــا … على القوم، ألوان الطيور الرسارس (معجم البلدان)
كما قال الجاحظ في حدثيه عن أبي علي بن الأسكري المصري” وسرنا مع القافلة إلى مكة، فقضينا حجنا، ثم لما وردنا القادسية ، أتتني السوداء فقالت: تقول لك سيدتي أين نحن؟ فقلت: نحن الآن بالقادسية». فأخبرتها، فسمعت صوتاً قد ارتفع منشداً:
لمـــــــــــــا رأينا القادسية حيث مجتمع الرفاق
وشممت من أرض الحجاز نسيم أنفاس العراق
أيقنت لي ولمـــــن أحــب بجمع شملٍ واتفاق
وضحكت من فـرح اللقاء كما بكيت من الفراق
فصاح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله، فلم يمسع لها كلمة. فلما نزلنا الناصرية، على خمسة أميال من بغداد، في بساتين متصلة، تبيت الناس فيها، ثم يبكرون ببغداد”.( المحاسن والأضداد).
لذا ربما يحد البعض ان تغيير اسم المحافطة من التأميم الى كركوك إنما هو العودة الى إسمها السابق، وهو أمر منطقي، لكن لا مبرر مطلقا لتغيير أسم محافظة القادسية، والتفسير الوحيد هو لأجل إرضاء الولي الفقيه، فهل هناك من تفسير آخر؟ وأن كان فرضا! فلماذا لم يفسره لنا حيدر العبادي ومجلسه المهلهل، لنكون على بينة من الغرض من تغيير إسم المحافظة؟ وهل هناك نوايا أخرى لإحياء فكرة محسن الحكيم الأصفهاني في إطلاق أسماء أئمة الشيعة على المحافظات العراقية؟ هذه ليست تكهنات بل أفكار توارد ذهنية أصحاب الفكر الطائفي وتُناقش في كواليس المرجعيات.
عندما أنشيء جسر الأئمة الذي يربط منطقتي الأعظمية والكاظمية، طالب الشيعة بتسميته (جسر الإمام الكاظم) وطالب السنة بتسميته (جسر الإمام أبو حنيفة)، ويبدو أن الأحياء تناصبوا العداء وأسبغوة على أئمتهم في جهل وإستحمار كبيرين. لكن حنكة نوري السعيد السياسية جعلته يمنع الإحتقان الطائفي، فأطلق عليه تسمية (جسر الأئمة) ليقنع الطرفين، ويفسر كل طرف التسمية على هواه. وهناك واقعة تأريخية تشبه الى حد ما ما حصل مع تسمية جسر الأئمة، فقد تشاجر الشيعة وأهل السنة فيمن هو أفضل الخلق بعد النبي (ص) علي أم أبو بكر ؟ فذهبوا إليإ بن الجوزي وسألوه. فقال: أفضلهما بعده من كانت إبنته تحتهـه، فأرضى الفريقين. فالسنة ظنوا إن الضمير في إبنته يعود الى أبي بكر لأن عائشة كانت تحت الرسول، والشيعة ظنوا ان الضمير في إبنته يعود إلى فاطمة لأنها كاتنت تحت علي”. (المستطرف من كل فن مستظرف).
فمتى يتعلم أشباه الرجال أبجدية السياسة؟ ومتى يتعلم أشباه رجال الدين ما هو جوهر الدين؟