23 ديسمبر، 2024 5:59 ص

لا بقينا ولا بقي الوطن

لا بقينا ولا بقي الوطن

كم يحتاج العشاق من وقت لكسر شوكة الزمن؟
انه عدوهم الاكبر، فللزمن علاقة عكسية مع الحب. يتذكر هو رحلته المتوجهة من سنغافورة الى لندن نهاية شهر تموز قبل عامين لما تذكره الحب برسالة.
ليته ما تذكر!
فإذا انكسر القلب، تغيرت فضائل الانسان وطبائعه. هكذا تغير هو يوم خانه النسيان،
رغم ان الرجال رجال في النسيان كما تقول احدى كبار الكاتبات، والحق انهم اشجع بمحاربة الذاكرة وخاصة ذاكرة الحب.
جلس في معقد الطائرة المخصص له في جناح رجال الاعمال رغم انه كان ثرياً بالذاكرة لا بالمال، واضاف لحقيبة ثرائه: اللامبالاة.
سألته احدى المضيفات عن نوع الشراب الذي يرغب بتناوله فرد عليها:
اريد شراباً للنسيان!
ثم فتح حاسوبه وكتب: لي موعداً مع الحب..قريبا!
وتحقق هذا بعد سنة واربعة شهور من تأريخ الارسال، وهذه الرسالة جاءته بعد ستة اعوام من الخذلان الاكبر، فيوم ارسلت له تحية اصابه البهتان العاطفي، وسأل نفسه لماذا يعود العشاق بعد سنوات كان الاجدر بهما ان يكونان معاً خلالها؟!
كل شيء تغير تقريباً، المشاريع والمشاعر، فكان مشروعه السابق وطناً، واصبح غربة، ومشاعره حباً فاذا بها وعداً بعدمه لجنس من البشر.
هو اليوم يفضل العيش في السماء ابتعادا عنهم، فدرس الطيران العسكري في جامعة سانت هيرست الانكليزية وحمل لقباً ما كان يطمح به، صحيح ان الغربة مكلفة، لكن كلفتها اقل بكثير من اسعار حب اليوم. الغربة تعطي شيئا مهدئاً للاعصاب كدواء للفراق.
يقول لنفسه احياناً : ( انها جميلة حتى بخذلانها، فلولاه لما تحققت اشياء ما كنت قد حققتها ابان فترة حبنا تلك).
مشكلته الذاكرة لا اكثر. فهو الذي كاد ينسى الوطن حتى عاد اسمها امامه كغيمة اثناء غارة جوية فبكى!

انه رجل الحب يوم امسى الحب مُخان كالوطن الذي ينتمي اليه، كيف لا وهو الذي اتفقا على خذلانه الحب والوطن معاً؛ ليحتضنه حضن اخر يدعى الواقع. هو يصف نفسه بأنه كغيرهُ من المغدورين لا يعيشون واقعا ولا يستطيعون التخلص من الماضي، ذلك انه عربي ذو تأريخ مجيد، هكذا يدرس العرب ابنائهم التأريخ في المدارس من دونما يذكرون لهم حجم الخيانات.
اذن رد على رسالة الحب تلك، رغم انه افتعل عدم المعرفة، ولغبائها صدقت ذلك!
اغلب النساء جاهلات حتى لو بلغن ذروة العلم، الا يكفي قوله تعالى ((ناقصات عقل)) فلو امتلكت شيئاَ من فراسة الحب لما صدقت رده المنفي ذاك، فسؤالها كان يشبه استفهام الاطفال السذج:
-هل عرفتني؟
فرد:
لا للاسف!
حتى هربت. كانت كالسهل سطحية بسؤالها، وكان كالبحر عميقاً برده، فكيف لرجل ينسى إمرأة لولا خذلانها لما وصل الى ما وصل اليه، ولولا حبها لما عرف الحياة على حق.
يوم انهى دراسته الاولية في اللغة الانكليزية، بقي مصراً على حرصه تجاه العربية، ليست لانها لغة المعلقات والقرآن، بل لانها لغة تواصل حبهما المبكر. كان متأكداً من عظمة حبه، لكنه لما يقرأ للعشاق قصصاً يتيقن ان ضوء حبه خافتاً. فعظمة الحب لا تتوقف عند قصائد قيس وما ضحى به عنتر، وحدهم الرجال رجال في العشق، اما النساء فلا، يكفي اسمهن لأثبات ذلك. فما هي تضحية ليلى وعبلة امام عظمة اولئك؟ هكذا كان يرى البشر، العشق للرجال فقط. اما للنساء فشيمتهن نزوة لا اكثر…
إلتقيا اذن!
ذات يناير..
وصدق هو المرأة التي ألفت للحب كتاباً يدعى في ديسمبر تنتهي الاحلام وفي يناير يبتدئ حلم جديد. هذه اول امرأة يصدقها، فعكس اغلب الكاتبات كانت اثير عبد الله النشمي صادقة بكلماتها التي تخطها على صحراء المشاعر العربية.
تمنى يوما لو ان النساء كأثير بوفائهن. فهي الوحيدة التي قالت ”اهم ما في الحب ان تصان كرامتك“ رغم ان كثير من النساء قالن له ان الكرامة امام الحب تمحى.
اذن انصفته عبير بأعمالها بقصد او بدونه، فكتاب “ذات فقد” يصف فقدانه ذاك. هي تلك السيدة التي قالت ”أحببتك اكثر مما ينبغي وأحببتني اقل مما استحق“ كانت دائما تشير لحبه من دون ان يعرفا بعضهما. ذاك الطائر الذي ما كان يحلم ان يكون طائرا، فهو قنوع بأن يظل عصفورا في عش حب، لا نسراً في سماء حرب. علمته العسكرية ان الانضباط الروحي اسمى الصفات الانسانية، ، وعلمته هي الصبر بعد هجرانها إياه ذات خريف.
يوم التقيا بعد فراق السنين، تمنى لو قال لها: ( ما كان الحب مذنباً في فراقنا، بل كنا مذنبين بحقه، نحن من كسر أجنحته، نحن ايضاً من نتفنا ريش عزته).
بعد لقائه بها، غادر الوطن فوراً، فهو من جيل الوفاء، لا من جيل السفهاء، لا يأكل طبقاً ما استطاع يوما شراءه لأفتقاره مالاً، كيف لا وهو يعيش في عنان السماء، وهل ثمة من نسر يصطاد فريسة مكتفة؟!
كتب ذات يوم متوهماً ” سيبقى حبنا أبدياً، وسيظل الوطن سقفاً لعشقنا وستراً لعواطفنا وغطاءاً لمشاعرنا“.
ثم بعد ذاك كتب ” لا بقينا ولا بقي الوطن“