18 ديسمبر، 2024 5:06 م

لا بدر بعد غياب الرميض

لا بدر بعد غياب الرميض

اثناء الحرب العالمية الاولى وبينما بدء الاحتلال البريطاني يأخذ المساحات العراقية في الجنوب ظهر احد ابطال العراق كقائد مغبون حقه التأريخي في يومنا هذا وكشيخ عشيرة ندر امثاله في زمن كثرت فيه الالقاب والشيوخ المفبركة, بدر الرميض, هكذا يحلو للعرب تسميته بدون لقب يسبق اسمه فأسمه يكفي ان يكون لقباً مشرفا يتوسمه من يطمح بأوسمة الشجاعة والكرم ومحبة الوطن والايمان.
ما دفعني للكتابة عن هذا الرجل هما امران الاول: كثرة العشائر العراقية وشيوخها وضعف المواقف الوطنية في زمن نحن بأمس الحاجة اليها. اما الثاني فهو الاحقية التأريخية لأبطال غدرهم التأريخ ونقتلهم نحن عندما نتناساهم بقصد او بدونه, فلولاهم لما كان لنا وطن ولا ثقافة عربية ولأصبحنا اصحاب تأريخ طوله بضع الاشبار في مقياس الزمن. فنحن مُطالَبون لهؤلاء الابطال برسم تأريخهم في جدران ذاكرة الجيل الجديد كي نتأمل من الجيل الجديد ذكرنا.
بدر بن عجيل بن سلمان بن ثنيان بن شدود بن رميض والذي يُلقب به (1845-1942), هو شيخ عشيرة قليلة العدد في جنوب العراق في مطلع القرن العشرين تسمى (عشيرة الرميض) تقطن ناحية الاصلاح (قضاء الاصلاح حديثا) التابعة لمحافظة ذي قار. يُنسب له مشيخة قبيلة البوصالح وقبيلة بني مالك ولا يزال هناك خلاف على مشيخة الاخيرة. له اربعة وعشرين نجلاً.
بزغ نجم بدر الرميض واضحاً في كبد سماء تأريخ شبه الجزيرة العربية عندما قاوم الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914 وما بعد هذه الفترة. يظهر دوره العسكري واضحاً في معركة الشعيبة عام 1915 والتي حقق هو ورجاله خلالها انتصارات معروفة, لكنه فقد اثنين من اولاده في هذه المعركة هما عبد الكريم وحمود. تؤكد المصادر التأريخية انه اسقط مروحية انكليزية بمساعدة نجله حمد عام 1919 ولا يزال احد احفاده يحتفظ بأجزاء من بقاياها.
خلال فترة الحكم الملكي للعراق وبالتحديد في فترة ما بعد الثلاثينيات قام الملك غازي بالابراق الى شيوخ عشائر العراق للإلقاء بهم ولبى الشيوخ الدعوة بأستثناء بدر الرميض الذي كان يخشى الذهاب لبغداد ولقاء الملك لأنه على اطلاع تام بما يحدث في البلاط الملكي من تسلط انكليزي وتحكم بقرار مملكة العراق بالضبط كما يحدث الان عندما تتحكم الكثير من الدول بمصير جمهورية العراق فلا فرق بين امس واليوم سوى اختلاف ارقام التأريخ وقلة الشهام. ويُذكر ان الملك غازي طلب لقاء بدر الرميض عندما زار محافظة ذي قار لكن امتنع الرميض من استقباله لان الملك كان مصطحباً معه ووزيرا ومستشارا انكليزيين.
اليوم ونحن نعيش في زمن العدد الهائل من اسماء العشائر المستحدثة والشيوخ المستجدة نواجه عدة احتلالات ومؤامرات واحوالاً اسوء مما واجهه اباءنا في القرن الماض بعشرات المرات, فأن كانت بريطانيا العدو الوحيد للعراق في ذلك الوقت اليوم لنا عشرات الاعداء ومئات من شيوخ عشائرنا وللاسف يعملون لصالح هؤلاء الاعداء لمجرد الحصول على مصروف يومي.
يذكر الصحفي الايرلندي نويل سليفن في مقال له ما مفاده :
كانت بريطانيا تنوي لعزل جنوب العراق وترغب بتدشين مملكة في الجنوب فارسل الحاكم االسياسي المحلي البريطاني هارولد ديكسون لحكومته اسماء بعض شيوخ العشائر والذين كانوا فرحين بذلك بأستثناء احدهم والذي كان اميا لا يجيد القراءة والكتابة يدعى بدر الرميض لكنه رفض التربع على عرش المملكة مادامه يعمل لصالح الاستعمار حسب ظنه, في حين وافق نظرائه كشيوخ عشائر العبودة وبني اسد والمنتفق.
فلو وافق بدر على ذلك لأركبوه على حصان من ذهب ولأصبح هو وابناءه كعائلة ال صباح في دولة الكويت التي دعمتها المملكة البريطاية, لكنه ابى صعود عرش الذلة وركب عرش الشرف التأريخي فأحسن الاختيار ابا حسن.
وما يؤكد ذلك هو ادلاء ديكسون بكتابه الكويت وجاراتها فيقول : ( خسر بدر الرميض كرسي سلطة الجنوب لتعنته, فكان بأستطاعته ان يكون حليفاً لنا كما صار غيره وتمتع بالسلطة والنفوذ واسعد شعبه).
ويقول ايضاً في كتابه عرب الصحراء : ( كان بدراً خصماً شريفاً, ومقاتلاً شجاعاً فلم يغدر يوماً بمدنيوننا او حلفائنا وانما كان صاحب تكتيت عسكري نوعي وهذا ما ادهشني به شخصيا خاصة بعدما عرفت انه لم يدرس العلوم العسكرية ولا يجيد القراءة والكتابة). ويصف شكله قائلاً : ( طويل القامة, عريض المنكبين, رياضي الهيئة, قوي البنية).
علاوة على ذلك يذكر المؤرخ الكويتي غانم يوسف الشاهين ان بدراً كان كالسيف اذ بتر اطماع الانكليز في منطقة لم يتخيل الانكليز انهم سيواجهون محارباً يخرج منها حيث عُرفت قرية الرميض بالبساطة ويعيش اهلها على الزراعة وتربية المواشي وصيد الاسماك.
وكان والدي كثير الذكر بمناقب هذا الرجل, حيث عرف نجله محسن وحفيده فارس عن قرب وسكن قريتهم في اواخر السبعينات, ويذكر ما معناه ان بدر الرميض لم يكن اقطاعياص قط كبقية كنظرائه من الشيوخ ولم تبرد دلال قهوته يواً (دلالة على كرمه), وكان عادلا في الحكم ولذلك كانت تأتيه العشائر المتنازعة للاخذ بقرار حكمه والتي تسمى بالفراضة. فكانت فراضته عدلاً, وكرمه جوداً,واخلاقه واخلاقه نبلاً, وشجاعته درساً اذا تحدثنا عن البواسل.
من الغريب ان نجد عربياً يرفض هذا الاغراء رغم ان بدراً كان ذو حالة مادية بسيطة. وبهذا تظهر شمس النضال العربي في النصف الاول من القرن العشرين في مغرب الوطن العربي متمثلة بشيخ المجاهدين عمر المختار والذي رفض اغراء الطليان واسمى بعزة شعبه ونفسه. اما في المشرق فيعلو قمر بدر الرميض المكتمل بزواياه الاخلاقية.الا ان الاخوان في ليبيا انصفوا مجاهدهم رحمه الله خير انصاف حيث وُضع اسم عمر المختار في المناهج الدراسية واطلق على بعض الشوارع اسمه وهناك تمثالاً في بنغازي يخلده. اما في العراق فالامر مختلف حيث غدرنا نحن العراقيون بأبطالنا الذين لولاهم لما كان لنا تأريخ نعرفه ولا ارض نسكنها ولا هذه المساحة الصغيرة من بحبوحة الحرية.
نحن مديونون بالوفاء لابطالنا وخاصة البدر الذي عُرِف فضلا عن شجاعته وبسالته بكرمه الذي يشهد له القاصي والداني بذلك وبشاعريته التي نظم العديد الكافي من البوذيات الجميلة التي تنمي روح التسامي في الاخلاق الرفيعة والجود في لطافة القول وحدة المواقف ضد من اراد الشر. يقول مخاطباً ابنه حسن حاثاً اياه على الكرم:
حسـن يبني تلكَه الضيف حي بيه
عسى زاد الغديد اسموم حي بيـه
ياهـو الجمع ماله وعاش حي بيه
بخيت الحفظ عرضه من الرديه
افلا يستحق بدرنا ان نكرمهُ بنصب تمثالا تذكارياً له او نطلق اسمه على احد شوارعنا او مدارسنا بدلاً من اطلاق التسميات الاجنبية الهجينة على الكثير من معالمنا؟!