15 نوفمبر، 2024 2:00 ص
Search
Close this search box.

لاهوت إبليس الملاك الساقط -7/ الشيطان كخالق للعالم: مقدمة في الغنوصية

لاهوت إبليس الملاك الساقط -7/ الشيطان كخالق للعالم: مقدمة في الغنوصية

تقديم / كامل علي
مقدمة:

أطّلعت على سلسلة من المقالات للكاتب السوري المبدع فراس السوّاح بعنوان (لاهوت إبليس الملاك الساقط) ولكون هاجس التنوير يتملكني من عدة سنوات، حاولت اختصاره وتقديمه للقراء الافاضل ولكني اكتشفت بأنّ الإختصار سيقضي على الفائدة المرجوة من النشر لذا سأقدم سلسلة المقالات تباعا كما نشرت.

في هذه السلسلة من المقالات سنلاحظ كيف ولد إبليس في ألميثولوجيا وخاصة في ديانة مصر القديمة وكيف تطوّر مفهومه وكيف أقتبست ألأديان ألإبراهيمية (اليهودية،المسيحية، ألإسلام) مفهوم  إبليس من الميثولوجيات السابقة عليها وطورته بما يتناسب مع معتقدات الدين الجديد، كذلك سنطّلع على لاهوت ابليس في الديانة الزرداشتية والمعتقد الغن

7-الشيطان كخالق للعالم: مقدمة في الغنوصية:

الغنوصية مذهب فضفاض لايقوم على إيديولوجيا دينية متحجرة، أو دوغما مذهبية. وقد بدأت بواكيره في الظهور مع مطالع القرن الأول الميلادي، بتأثير من الفسلفة الأفلاطونية الوسيطة، والتعاليم الهرمزية المنسوبة إلى شخصية غير تاريخية هي هرمز المثلث العظمة.

وهذه التعاليم الهرمزية مبثوثة في ثماني عشرة رسالة تمثل نوعاً من الغنوصية المبكرة، صاغها على ما يبدو عدد من المؤلفين الذين ينتمون إلى أخوية روحانية ألفت بينهم وجمعتهم على حب المعرفة.

يظهر في الرسائل الهرمزية عدد من الأفكار الرئيسية المؤسسة للغنوصية، وأهمها مثنوية الإنسان وانقسامه إلى جزء مادي وآخر روحاني؛ حيث يمثل الجسد كل ماهو مادي ومظلم وفانٍ، ويمثل العقل (الذي يتطابق مع الروح) كل ماهو نوراني وحقيقي وخالد؛ وهو الذي يقود في النهاية إلى الخلاص من سجن المدة، وتُجسد فعالياته سعي الروح إلى الانعتاق، ودعوتها إلى العوالم النورانية العليا، إلى الله الذي تدعوه النصوص الهرمزية بالأب الكلي.

جاءت تسمية الغنوصية – Gnosticism من الكلمة اليونانية غنوص- Gnosis التي تعني المعرفة الحدسية الباطنية، أو العرفان بمصطلح التصوف الإسلامي.

فالعارفون هم الغنوصيون- Gnostics الذي يتواصلون مع الحقيقة من خلال بصيرتهم الداخلية، أما الآخرون فهم غير العارفين، الذين يقفون عند ظاهر التعاليم الدينية ولا ينفذون إلى حقيقتها الباطنية.

فإذا كان الطريق إلى الجنة يتمثل عند اليهود في الالتزام بأحكام الشريعة، ولدى المسيحيين في الإيمان بيسوع المسيح مخلَّصاً، فإن الخلاص عند الغنوصيين يتأتى عن طريق فعالية روحانية داخلية، تقود إلى معرفة النفس؛ وفي أعمق مستوياتها تقود إلى معرفة الله ذوقاً وكشفاً وإلهاماً.

هذه المعرفة هي التي تحرر الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع، لتعود إلى مصدرها حيث كانت قبل الهبوط.

خلال الفترة المبكرة لانتشار المسيحية في مصر وبلدان الهلال الخصيب، تحولت جماعات غنوصية عديدة إلى المسيحية، ونتج عن ذلك تيار غنوصي مسيحي عبَّر عن عقيدته من خلال أدبيات غنوصية غزيرة، بينها أناجيل صُنِّفت بعد ذلك بين الأناجيل المنحولة.

ولقد نافست هذه الغنوصية المسيحية في كل مكان المسيحية التقليدية، وشكلت تهديداً للكنيسة الناشئة، قبل أن تتلاشى إثر حملة قمع شاملة قادتها الكنيسة منذ القرن الرابع الميلادي، أدت إلى إتلاف معظم المخطوطات الغنوصية، وأما ما تبقى منها فقد ضاع أثره تدريجياً بعد فترة لابأس بها من التداول السري.

لهذا فقد بقي المهتمون بالتأريخ للفكر الغنوصي يعتمدون على ما كتبه آباء الكنيسة في معرض نقدهم للغنوصية، وما أوردوه من مقتطفات أمينة من كتبها الأساسية.

ولكن في عام 1945 تم اكتشاف مكتبة غنوصية في موقع نجع حمادي بمصر، احتوت على اثنتين وخمسين مخطوطة مخبأة في جرار فخارية، ويعود تاريخها إلى نحو عام 400 للميلاد، وهي ترجمة قبطية لنصوص مكتوبة باليونانية ترجع إلى تواريخ أبكر من ذلك بكثير.

وقد صدرت الترجمة الإنكليزية الكاملة لهذه المكتبة في مجلد واحد ضخم أشرف على تحريره J.M. Robinson عام 1972 تحت عنوان “The Nag Hammadi Library”.

وهو مرجعنا في كل المقتبسات التي نوردها في هذه المقالة.

قبل أن نشرع في بسط عقائد الغنوصية المسيحية وعرض بعض من أهم الأساطير التي حاولت عرض أفكارها من خلالها، لابد من التوقف عند شخصية فكرية ولاهوتية مهمة هي مارقيون الذي يشكل مرحلة وسيطة بين المسيحية التقليدية والمسيحية الغنوصية.

ولد مارقيون في منطقة بونتوس على البحر الأسود في أواخر القرن الأول الميلادي، وانتمى في مطلع شبابه إلى المسيحية القويمة، ولكنه سرعان ما أخذ بصياغة عقيدته الخاصة المتلونة بالغنوصية، والتي تسببت أخيراً في حرمانه من الكنسية عام 144، فنظَّم لنفسه كنيسة خاصة شكلت في ذلك الوقت أخطر تهديد على كنسية روما.

ينطلق مارقيون في تفكيره من مبدأ الفصل التام بين العهد الجديد والعهد القديم، وكان معارضاً للطريقة المسيحية في تأويل العهد القديم لجعله متلائماً مع العقيدة الجديدة.

وإله العهد القديم يهوه ليس الأب السماوي الذي بشر به يسوع، بل هو الإله الخالق، أو الديميرج باللغة اليونانية، الذي صنع العالم المادي الناقص، وصنع الإنسان أيضاً وفرض عليه الشريعة التي كانت بمثابة لعنة، على حد تعبير بولس الرسول.

هذا الإله الحقود والمنتقم (على حد تعبير مارقيون) لا يستحق الطاعة والعبادة التي يطلبها، وهو ليس أباً ليسوع كما يعتقد المسيحيون القويميون.

أما الله الحق فهو الأب السماوي الذي يدعوه مارقيون بالإله المتعالي والإله المجهول؛ وهو لا يتدخل في أحداث العالم لأنه ليس صانعه؛ ولم يفعل شيئاً إلا إرسال ابنه يسوع المسيح الذي هبط من السماء إلى هذا العالم السقيم والتافه، وصلب من أجل الإنسان الذي أحبه وأراد له الخلاص.

فلقد ظهر المسيح فجأة وهو يُعلم ويُبشر بملكوت الروح، فظنه بعض اليهود المسيح القومي المنتظر، كما أن تلاميذه أنفسهم لم يفهموا المغزى الحقيقي لرسالته.

ونظراً لجهل يهوه بقيمة المخلِّص فقد دفع به إلى الصلب.

اعتمد مارقيون إنجيلاً واحداً فقط هو إنجيل لوقا، بعد أن حذف منه قصة ميلاد يسوع وسلسلة النسب التي تربطه بالملك داود، واعتمد إلى جانبه عشر رسائل لبولس اعتبرها أصلية.

وبذلك كان مارقيون أول من وضع كاتالوجاً معتمداً للعهد الجديد.

ولكي تواجه كنيسة روما النفوذ المتزايد لفكر مارقيون، فقد أسرعت من ناحيتها لوضع أول كاتالوج رسمي للعهد الجديد، وذلك نحو عام 180م.

على أن ما يجعل مارقيون في نقطة الوسط بين المسيحية القويمة والمسيحية الغنوصية هو توكيده على عنصر الإيمان المسيحي؛ فهو لم يقدم للمؤمنين وعداً باستنارة الروح، بل بمباركتها عن طريق شفاعة ابن الله المتعالي، بينما يقوم المعتقد الغنوصي على العرفان لا على الإيمان.

لقد قال يسوع في الأناجيل الرسمية:

“من آمن بي وإن مات فسيحيا.”

وقال:

“أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي.”

أما في الأدبيات الغنوصية، فإن المسيح ليس وسيطاً للخلاص بل هو رمز لمعرفة الحقيقة بالكدح الشخصي.

ففي إنجيل توما الغنوصي قال التلاميذ ليسوع:

“أرنا المكان الذي أنت فيه، لأنه من الضروري أن نبحث عنه.” فقال لهم: “من له أذنان فليسمع. هنالك نور داخل إنسان النور، من شأنه أن يضيء العالم. ولكن إذا لم يضء فلا شيء سوى الظلمة.”

مثل هذا القول يوجه ذهن المريد إلى ذاته الحقيقية، وخبيئته التي تنطوي على طاقة هائلة، وإلى النور الداخلي الذي يساعده على اكتشاف طريقه بنفسه.

وفي “كتاب توما المنافح” قال يسوع:

“من لم يعرف نفسه لم يعرف شيئاً، ولكن من عرف نفسه حقق معرفة بأعماق الكل.”

وفي نص “حوار المخلّص” لدينا مثال على طريقة يسوع في تحويل السائل إلى نفسه ليجد عندها الجواب. فقد سأله أحد التلاميذ أن يريهم مكان الحياة حيث النور النقي. فأجاب يسوع:

“من عرف نفسه منكم فقد رآه.

وسأله آخر: “من الذي يبحث ومن الذي يكتشف؟” فأجاب يسوع:

“إن من يبحث عن الحقيقة هو الذي يكتشفها.”

وفي نص “بيان الحقيقة” يقول المؤلف: “إن المريد هو في الواقع تلميذ عقله الخاص، وهو الذي يكتشف أن عقله هو أبو الحقيقة، ويعرف ما يتوجب عليه معرفته من خلال التأمل الباطني الصامت.”

فيسوع الحي بالنسبة إلى الغنوصيين ليس إلا رمزاً لمعرفة الحقيقة، وهو لا يدعوك إلى الإيمان به بل إلى الإيمان بنفسك وبقدراتك الكامنة الكفيلة بتحقيق خلاصك.

وفي هذا ما يذكرنا بقول البوذا لأولئك الذين يبحثون عن شفاعة الكائنات الإلهية من أجل الخلاص:

“يا أيها الإنسان أنت صديق نفسك، فلماذا تبحث عن صديق آخر؟

“إن بؤس الشرط الإنساني يعود إلى الجهل لا إلى الخطيئة الأصلية التي تقول بها المسيحية القويمة. فالبشر في هذه الحياة هم في حالة غفلة ونسيان وعدم إحساس بذواتهم الحقيقية.

يقول المعلم فالينتينوس في “إنجيل الحقيقة”:

“إن الوجود أشبه بالكابوس. فالنائم يرى أحياناً أنه يسقط من جبل عالٍ، أو تطارده الوحوش المفترسة، أو يلاحقه قاتل، أو يطير في الهواء بغير جناح، ولكنه حين يستيقظ من نومه يتلاشى كل ذلك.

وهذا هو حال أهل العرفان الذين تخلصوا من جهلهم مثلما يتخلص النائم من كابوسه، تاركين حياة الجهل مثلما يترك من أفاق من نومه لليل أحلامه وكوابيسه، مقبلين على عالم جديد يتلاشى فيه الجهل مثلما يتلاشى الظلام أمام نور الصباح.

“هذا السعي نحو الاستنارة يتطلب الكفاح ضد مقاومة داخلية هي أشبه بالرغبة في البقاء على حالة النوم ورفض الصحو.

يقول المعلم سيلفانوس في نصه المدعو بالتعاليم:

“قم من هذا النوم الذي يثقل عليك، اصح من الغفلة التي تملؤك بالظلام. لماذا تطلب الظلام مع أن النور متاح لك؟ الحكمة تناديك ولكنك تطلب الحماقة. الإنسان الأحمق يتبع طريق الرغبات والشهوات ويغرق في مستنقعها، إنه مثل سفينة جانحة تدفعها الرياح في كل اتجاه، أو مثل حصان جامح بلا فارس، يحتاج لجاماً هو الرشد. قبل كل شيء اعرف نفسك… اعتمد على مرشدك الذي هو العقل، ومعلمك الذي هو الرشد… عش وفق ما يمليه عليك عقلك… اكتسب القوة لأن العقل قوي… أنر عقلك… أشعل النور الذي في داخلك… اقرع على باب ذاتك وامش عليها كما تمشي على درب ممهد ومستقيم، فإذا مشيت في هذا الدرب فإنك لن تضل أبداً.

“فالغنوصية معتقد خلاص، وكل مفاهيمها وتصوراتها الكونية تتلخص أخيراً في مفهوم واحد عن التحرر والانعتاق. ولكن الخلاص الغنوصي لن يتأتى من خلال الطقوس والعبادات الشكلانية، إذا لم تترافق مع العرفان.

إن الصراع الرئيسي الذي يخوضه الإنسان هو صراع بين العرفان الذي يقود إلى الخلاص، وبين الجهل الذي يبقيه في دورة الميلاد والموت، كلما بلي جسمه وآل إلى الفناء تقمصت روحه جسداً آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية إذا لم تفلح في الانعتاق.

من هنا فإن الحكمة القديمة المنقوشة على جدار معبد دلفي في اليونان والمؤلفة من كلمتين هما “اعرف نفسك”، تتخذ أهمية مركزية في كل النُظُم القائمة على العرفان.

فلقد استخدمتها الأفلاطونية وفسرتها بمعرفة النفس الإلهية في داخل الإنسان؛ وكذلك الهرمزية التي نقرأ في إحدى رسائلها:

“إن الله الآب الذي جاء منه الإنسان هو نور وحياة. فإذا عرفت أنه نور وحياة وأنك صدرت عنه، فسوف تستعاد إلى الحياة مرة أخرى.

“فعلى عكس الزرادشتية وبقية النظم الدينية التي تبشر ببعث أجساد الموتى في اليوم الأخير، فإن البعث الذي تبشر به الغنوصية هو بعث الأرواح، إنه خلاص من الجسد ومن العالم في آن معاً، لا من الخطيئة ومن الذنوب.

وإذا كان من مفهوم عن الخطيئة الأصلية في العقيدة الغنوصية، فإنه سقوط الروح في عالم المادة، وإذا كان هنالك من مفهوم عن التوبة، فإنه وعي الإنسان للقبس الإلهي الذي في داخله، وبحثه عن الوحدة المفقودة.

مع انبعاث هذا الوعي تبتدئ الروح رحلة خلاصها وانعتاقها، ويتحول الموت من بوابة تؤدي إلى القبر أو إلى دورة تناسخ جديدة، إلى بوابة تؤدي إلى العالم الروحاني الأعلى.

وفي هذا يقول مؤلف العمل الغنوصي المعروف بعنوان “رسالة في البعث”:

“إن الوجود الإنساني هو نوع من الموت الروحي، أما القيامة فهي لحظة الكشف والاستنارة التي تنقل العارف إلى عالم جديد. وإن من يصحو على هذه الحقيقة يغدو حياً من الناحية الروحية. إن باستطاعتك الانبعاث من عالم الموتى هنا والآن. هل أنت مجرد جسد فانٍ؟ هلا تفحصت نفسك ووعيت بأنك قد قمت من بين الأموات.”

أي إن من حقق العرفان قد بُعث من الموت قبل أن يموت، وما عليه سوى انتظار واقعة الموت التي تنزع عنه رداءه المادي وتحوله إلى روح منعتقة. وفي هذا يقول إنجيل فيليب الغنوصي:

“إن من يعتقد أن عليه أن يموت أولاً ثم يُبعث هو على ضلال، لأن بمقدوره أن يبعث وهو حي.” لذلك قال يسوع في إنجيل توما الغنوصي:

“هذه السماء ستزول، والتي فوقها ستزول. ولكن الذين هم أموات لن يحيوا، والذين هم أحياء لن يموتوا.”إن إنكار القيامة العامة للموتى في نهاية الزمن، يستتبع عند الغنوصيين رفضهم لمفهوم التاريخ الدينامي الذي يسعى إلى نهاية معينة يتخلص عندها العالم من بذور الشر التي زرعها فيه الشيطان، ليغدو نقياً وكاملاً كما كان في البدء.

فالعالم ليس خيِّراً في أصله بل هو شر من حيث الأساس، والتاريخ لا يسعى إلى غاية وليس له معنى، وما على الإنسان إلا الهروب من العالم ورفضه بدلاً من انتظار نهايته السعيدة، لأن الروح الحبيسة في الجسد لن تنعتق إلا من خلال الغنوص، وما الجسد إلا ثوباً نرتديه لفترة مؤقتة ثم نتخلص منه إلى الأبد.

وهذا ما دعا الغنوصيين إلى احتقار الجسد واعتبار وظائفه غير مهمة بالنسبة للكائن الروحاني. قال يسوع في إنجيل توما:

“إنني أعجب لهذه الثروة العظيمة (= الروح) تقيم في هذا الفقر المدقع (= الجسد).

“إن الصراع ضد شهوات الجسد يقع في صميم الأخلاق الغنوصية. والغنوصيون يرون أن الأخلاق السائدة في المجتمع هي أخلاق براغماتية. فالذي يعمل بقاعدة “لا تسرق” يفعل ذلك لكي لا يتعرض هو نفسه إلى السرقة، والذي يعمل بقاعدة “لا تقتل”، يفعل ذلك لكي يحمي نفسه من القتل، والذي يعمل بقاعدة “لا تزن” يفعل ذلك لكي يحمي نساءه من الرجال الآخرين.

إن مثل هذه النواهي الواردة في الشرائع الدينية ليست بالنسبة للغنوصي أخلاقاً حقيقية، والالتزام بها لا ينشأ عن تلمس حقيقي للخير الكامن في النفس الإنسانية وإنما عن الخوف. أما الأخلاق الغنوصية فتنشأ عن الحرية التي يحققها الغنوص للإنسان، وعن اكتشافه لمصدر الخير الأسمى في داخله. فالمعرفة تحقق كمال الإنسان، والكامل لا يستطيع إلا فعل الخير بعيداً عن الخوف وعن الطمع.

إن الأب النوراني الأعلى لا يطلب من الإنسان إلا أن يعرفه في داخله، وعندما يعرفه يغدو حراً وكاملاً وخيّراً. ومَنْ شأنُه كذلك لايرتكب الخطيئة.

فيما عدا الغنوصية المانوية التي تحولت على يد معلمها ماني خلال أواسط القرن الثالث الميلادي إلى ديانة مؤسساتية ذات إيديولوجيا ثابتة وتنظيم كنسي مراتبي، فإن الفكر الغنوصي عامة لم يطور إيديولوجيا دينية موحدة ومنمطة، وبقيت الفرق الغنوصية أشبه بالطرق الصوفية الإسلامية التي يتبع كل منها شيخاً ذا نهج خاص، على اشتراكها جميعاً بالأفكار العامة الرئيسية.

ولقد قاد تعدد المدارس الغنوصية وتوكيد معلميها على حرية الإبداع، إلى خلق تيارات فكرية غنوصية لم تنتظم أبداً في كنيسة واحدة ذات هيكلية مراتبية، تفرض عقيدة يُعدّ الخروج على واحد من بنودها هرطقة وخروجاً عن الإيمان القويم.

هذه التيارات لم تتصارع ولم يستبعد بعضها بعضاً، وإنما تعاونت وأغنت بعضها بعضاً، ووجدت في التنوع إثراءً لفكرها المشترك. من هنا فإن الغنوصية لم تعتمد نصوصاً مقدسة بعينها، ونظرت إلى نصوصها باعتبارها مقاربات للحقيقة الكلانية، لا تعبيراً حرفياً عن هذه الحقيقة التي لا يمكن إداركها إلا من خلال تنويعات رمزية اتخذت في الغالب لديهم شكل الأساطير.

على أن أهم ما يميز المسيحية الغنوصية عن المسيحية القويمة هو اعتقادها على طريقة مارقيون بأن عالم المادة الذي يتخلله الشر ليس من صنع الله الأب النوراني الأعلى، بل من صنع الشيطان الذي هو يهوه بالذات إله التوراة. وهذا ما سنتابعه في مقالة تالية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات