23 ديسمبر، 2024 12:52 م

لاهـوت السيـاسة – الأحـزاب والحركات الدينية في العـراق

لاهـوت السيـاسة – الأحـزاب والحركات الدينية في العـراق

جـاء عنوان الكتاب الذي نحن بصدد مراجعتـه معبراً عن مرحلة دينية سياسية بكل تفاصيلها ، السلطة منها والمقـاومة . ونظـرة عابرة إلى رايات تلك التنظيمـات تجدها كأنها خرجت من قمقم التاريخ بنشر راية الرسول ورايات الأئمة وصلاح الدين الأيوبـي . فالأحزاب التي في السلطة وان كانت لا تعترف بخضوعها الكلي لهذا اللاهوت إلا أنها عملت وتعمل عبر المرجعيات واستخدام الرموز الدينية بقوة في الانتخـابات التي أوصلتها إلى السلطة ، وهذا ما حقق لها الفوز الجـارف .
لـكن لاهوت السياسة عموماً خارج أقناع الناس عبـر الرموز الدينية لا يجد لها مصداقية بعد الأداء الفـاشل وهو في قمة السلطة ، حيـث تكشف الحال عن أرقام مذهلة من الفساد ، وتبيـن كم من السهولة ركوب الموجة الدينيـة وتحول الولاءات بسرعة فائقة ، بل تعرضت الديمقراطيـة عموماً إلى انتكاسة بسبب ذلك الأداء وظهر (المائز) الكبيـر بين الشعارات الدينية وحقيقـة السلوك ، بين التدين التقليدي المبنـي على الأمانة والخوف من الله واستلهام مثـال الإمام علي بن أبي طالب فـي خشونة العيش والرفعة والنـزاهة والتدين السياسي المكشوف فـي نفاقه وخيانته للمال العام وفراقه لشعاراته التي يأخذ بها المؤمنون من على المنبر الحسينـي .
لقـد غدت ظاهرة التحزب الديني في العراق من التي ظهرت بوادرها في عشرينيات القرن الماضي ولاسيما بعد السبعينيات منه .. تشكـل ظاهرة خطيرة حين تبدلت مطاليبها من الحفاظ على الحالـة الدينية إلى المناداة باستـلام السلطة بقـوة السلاح ، وذلك بسبب الوضع الداخلي حيث الحرب مع إيران والدكتاتوريـة الخانقة مع الظرف الداخلي المتمثل بثورة إيران الإسلاميـة ، يُضاف لها حرب الجهاد الأفغانيـة .
كـانت صحوة دينية سياسية عارمة لم تشهدها العقود ولا القرون السابقة .. وبسبب طبيعة النظام السابق ومحاولاته فـي تكريس الطائفية كردة فعل طبيعية ضد انتصار الثـورة الإيرانية الشيعية وتعاظم المد السياسي الشيعي داخل العراق ، اخـذ الفعل السياسي أو الحزبي الدينـي طابعاً شيعياً مع وجود فعل سُنـي خامل إلى حد ما ممثل بالحزب الإسلامـي العراقـي وبتنظيمات وشخصيات ليس لها الحضور الفاعل فـي المعارضة العراقية مع أن شخصيات منهـا ليست بالقليلة تلقت ضربات موجعة وكـانت البداية بالشيخ عبد العزيز البدري وشقيقـه .
مـن جانب آخر ، وعلـى الرغم من المحاولات التـي سعت إليها أحزاب وشخصيات فـي الإسلام السياسـي العراقي لـم يكن ممكناً لحزب دينـــي أن يتجاوز طائفته . فـللسنة أحزابها وللشيعة أحزابهـا ، وذلـك بسبب طبيعة الخلاف التاريخـي والعقائدي بما يخص مسألة الأمانة وما تبعها من فروق أخرى فـي العبادات والمعاملات .. لكـن هذا لا يعنـي أن كلا تلك الأحزاب على طول الخط مارست الطائفيـة كحالة تعصب واستحواذ ضد الطائفة الأخـرى .
بـدأ النشاط الديني فـي السياسة كدفاع عن الخلافة العثمانية على أسـاس أنها ممثله للإسلام في عصـرها وممارسـة جهاد الدفاع فـي حالة غزو أو اعتداء ، لـذا يصعب اعتبـــار تلك الحركات ضمن الأحـزاب الدينية أو ضرباً مـن ضروب الإسلام السياسي الساعي إلى دولة دينيـة تحت مبدأ ألحاكمية ، بمعنى أنهـا وان دعت إلى الرابطـة الإسلامية العالمية والخلافـة الإسلامية لكنها لم تحدد هدفها بالدولـة الدينية كإيديولوجية شمولية أو كحاكمية بقدر محاولة الاحتفاظ بإرث الإمبراطورية الإسلامية العثمانيـة .
مثـل هذا النمط من الحركات ، وبمشاركة المرجعيـة أو تبنيها له مباشرة ، انتهى دور تلك الجمعيات بعـد تمكن بريطانيا في العراق وظهور الحكم الوطنـي . أمـا الجانب السُني الرسمي ممثلاً بنقابة الإشراف فـي بغداد فلم يعنها الأمر بل امتثـلت لواقع الحال معتبره أن الاحتلال هو الاحتلال عثمانيا أو بريطانيا ، وكـان نقيب الإشراف قـد أصبح أول رئيس وزراء للعراق وهو تحت الاحتلال البريطانـي .
  إن السيـاسة في العراق كانت حتى الخمسينيات من القرن الماضي خالية من أي محتوى أسلامي جاد . أن الإسلام السياسـي ظهر في واقع الأمر في أوساط سنية عند انتشـار معتقدات الإخوان المسلمين وحزب التحرير . ومـع أنها سنية فـي الاتجاه فهناك فـي كل منهما عدد من الإتباع الشيعة الذين استواهم ما فيهما من ميل إسلامـي .
وبـظهور طرح أسلامـي شيعي على الخصوص في الخمسينيات من القرن الماضي ، فأن معظم إتباع الطرح اتجهوا نحو المجموعات الإسلاميـة التي بدأت تظهر في الأوساط الشيعية في ذلك الحيـن .
إن المرجعيـة ذاتها أخذت تبدي اهتمامـاً بانتشار معتقدات غريبة فـي أوساط الشباب الشيعة وعلى الأخص منهـا الشيوعية التـي ثبتت إقدامها في الجامعات وفـي المجموعات الشبابية وأصحاب المهن المختلفة ، بـدأت مجموعات العمل السياسي الشيعية بالتنظيم فـي الخمسينيات من القرن الماضي عندما أخذت الفكرة الخاصة بحزب إسلامـي معين بالتبلور . وفـي ذلك الوقت ولد حزب الدعوة الإسلاميـة .
لا تخفـى صعوبة البحث فـي التيارات التي تشكلت وظهرت مباشرة وبقـوة بعد سقوط نظام صدام وما حـاولته من ملء الفراغ الذي تركته أجهزة النظام السابـق . فمـن يتابع التيار الصدري قبل السقوط وبعـده يجد سرعة للإحداث والانشطارات فـي داخل مرجعيات التيار نفسـه الذي لم يعرف من قبل بهذا الاسـم . فـإضافة إلى التيار الصدري المعروف هناك حـزب الفضيلة الذي يُدعم دوره في الجنوب وفي البصرة على وجه التحديـد . وارتبـاطاً بالتيار الصدري ليس هناك أصعب مـن رصد تحرك جيش المهدي وتعـدد أصحاب القرار فيه وتعبيـره المسلح عن التيار ككل ومـا يرتبط به نعُرفه بالحركة (المهدويـة) أو (المهدييـن) . فأكثر أولئك تجدهم من حاضــري دروس السيد محمد محمد صادق الصدر ، مع فك الارتباط حيـث لا يوجد الآن ما يمكـن أن يُطلق عليه بالتيار الأم وخصوصاً بعد اغتيال الصدر نفسـه .
إلا أن الأصـعب من هذا هو البحث فـي الحركات الجهادية التـي لا تصلح للغالب منها تسمية الحزب ولا التنظيـم ، فهي عالم غامض سري للغايـة والمعلومات حوله تبـدو متناقضة وجماعاته سريعة التقلب بين شـد تنظيم القاعدة وترغيب الأمريكـان ، فمـا أن تتأسس جبهة ألا ونقضت نفسها في جبهة أخـرى .
عمومـا ، تأتي عملية رصد التنظيمـات السياسية الدينية بعد سقوط صدام أصعب كثيراً منها قبل السقـوط . والسبب أن التنظيمات فـي المعارضة كانت تتحرك خارج العـراق بكل حرية وذلك ضمن الظرف الدولي المضاد للنظام السابق ، لـذا كانت تعبر عن نفسها ببياناتهـا وعبر شخوصها وأعلامهـا بكل حرية ممـا وفر المعلومات الكافية عن وجودهـا ونشاطها .. إمـا بعد السقوط فيبدو الغموض والتبدل السريع فـي المواقف هما سمتي هذه الفتـرة وعلاوة على انخراط بعض هـذه الأحزاب في النشـاط السري الذي التمس العنف المسلـح ، والأمر كمـا يبدو على السواء لكل لاهوت السياسـة أحزاب السلطة وتنظيمـات أو فصائل المقاومة ، فـالكل خائف متوجس مـن الكل (حسب تحليل المؤلـف) .
إن ظـاهرة الإسلام السياسي تعد ظاهرة قديمة فـي تاريخ الإسلام وعلى ارض العراق عدا دعوات الفقهـاء أو مواقفهم من السلطة التي لا تحسب ضرباً من ضـروب الفعل السياسي والحزبي بقدر مـا كانت موجهة لنصرة الحق والعـدل بمفهومهما الدينـي كوعظ أو احتجاج . هنـاك التنظيم السياسي الحزبي المبنـي على فكرة الإمامة أو أصلها حسب أصـول الشيعة والمعتزلة على حد سواء . ولا يخفـي ارتبـاط ذلك التحرك بالمرجعية الدينية التـي يرقى تاريخها إلى أكثر من ألف عـام ، أي بوفـاة آخر الأئمة ألاثني عشـر المعصومين لدى الشيعة وبالتحديـد حسب الشائع في كتب المذهـب بعد الغيبة الكبـرى ووفـاة آخر سفراء المهـدي المنتظر (326 أو 329 هـ) حيـث اختفى الإمام وتوقف السفراء وبـدأ دور المراجع الدينيـة .
كـانت أول حركة سياسية معاصرة دخلت فيهـا المرجعية هي الحركة الدستوريـة (1906) ، أو ما عـرف بـ (المشروطية) و (المستبدة) . حينهـا انقسمت المرجعية الدينية إلـى جماعتين في النـجف بعد أن انتقـلت إليها الحركة من إيران حيث المطالبـة بحكم دستوري ، وكان جماعة المستبدة بزعامة المرجـع محمد كاظم اليزدي (ت 1919) والمشروطة بزعامة الملا كاظم الخراساني (ت 1911) ، والاثنان مقيمان في النجـف .
وإجـمالا هي حركة حزبت المرجعية الدينيـة إلى جماعتين أو فريقين يرى الأول في الدستور أو الحياة البرلمانيـة الفوضى وخارجة عن التقاليد المتبعة وربما قالـوا بأنها تتعارض مع إمامة المهدي المنتظر وتخل بانتظاره ، لـذا سُموا بالمستبدين أو المستبدة لإيمانهم بالحكـم المطلق مع مراعاة العدل أي العادل المستبد . بينمـا الفكرة هي أن الحكم يبقـى مغتصباً بغياب الإمام المهدي مهما كان الإمام أو الخليفة أو المـلك من العدل والإحسـان ، فالدولة المرجوة هـي دولة صاحب الزمان . أمـا الفريق الثاني وهم أهل المشروطة ، فيـرون أن حكم الاستبداد غير عادل ولابـد من دستور يتقيد به الحاكم ويلحق بلاد المسلمين بـركب الأمم المتحضرة التي اتخـذت الحياة البرلمانية طريقاً أو أسلوبا في أدارة الدولـة .
كـان التدخل المعاصر الثاني من قبـل الزعامة الروحية لشيعة العراق في الشأن السياسي هو ثورة العشريـن . وقد وصف هذا التدخل بمواجهة الانكليز ، بأنـه فعل وطني في حين أن هناك من يشير إلى أنها فعلا إسلاميا أكثر من فعل عراقـي ، وذلك لصبه في مصلحة الدولة العثمانيـة ، وظهر كأنـه دفاع عن وجودها مع أنها فـي حسابات الكثيرين دولة محتلـة ، بل كانت من أكثر الدولة المحتلة تخلفاً واستحواذاً في العصر الحديـث .
كـان لهذين التدخلين فـي السياسة من قبل المرجعية صداهمـا لدى شيعة العراق وأثرهما فـي تأسيس العديـد من الكيانات والأحزاب الشيعية في مـا بعد وان كان ذلك التأثير غير مباشر . بيـد أن حركة كبرى مثل الحـركة الدستورية ومـا انفلق منها من نشاط سياسي وأدبي أو ثورة العشرين والحماسة الثـورية فيها لابد أنهما تركتـا تأثيرا ما على الحياة السياسيـة والاجتماعية فـي البيئــة الشيعية الدينية في الأقـل .
لـم يظهر في العهد العثماني أي نشاط شيعي سياسي عبر أحزاب وتنظيمات سياسية أسلاميـة .. ومما لا ينـكر أن علاقة السلاطين العثمانيين لم تكن عنفية عدا ما واجهوا به الدولة الصفويـة .
كـان سلاطين آل عثمان وولاتهم على عداء عميـق مع الملوك الصفويين وهذا سبب كافٍ لاعتبار الشيعـة إتباعا لخصومهم أثناء المواجهـات ، إلا أنهم كانـوا يقدرون المراقد الشيعية ولا يسيئون لها عنـد اجتياحاتهم لـ بغـداد مثل إسـاءة الصفويين للأمكنة السنيـة ذات المراقد والأضرحـة .. يفهـم ذلـــك ضمن الاعتراف السنـي بمكانة البيت العلوي مع عدم الإجبـار على التحول من التشيع إلى التسنّـن ، مثلما حدث فـي الدولة الصفوية وذلـك لتأسيس حكم شيعـي مقابل الحكم السني العثمانـي .
لقـد اشتدت ظاهرة الإسلام السياسي فـي العراق بعـد انتصار الثورة الإيرانية التـي لم يكن بينهـا وبين انـدلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية ألا بضعة شهور (شبـاط/1979 ـ أيـلول/1980) . والحرب التـي خدمت تلك الظاهرة الدينية ، ومـا جهز الأحزاب الدينية بالكوادر والإتباع والمسلحين ، هي عمـليات التهجير التي طالت الشيعة على وجه الخصوص وفـي مقدمتهم طائفة الفيلييـن الكورد .
فقـد تأسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية فـي العراق 1982 وتشكلت ذراعه العسكرية (فيلق بدر) بعـد عام من ذلك ، وهنـاك أعاد حزب الدعـوة بناء نفسه بعد الخسائر الكبيرة التي طالته في الهجمات الشرسة ضده مـن إعدامات واعتقالات حتى عـاد إلى العراق 2003 ، بعد أن فقد الكثرة من أعضائه .
إن الصـراع بين العثمانيين والصفويين من اجل السيادة فـي العراق قد طال العلاقات الشيعية  السنية داخـل البلاد فكانت كل مجموعة مـن المجموعتين تسعى لتقويـة وضعها ومركزها ، وعندمـا سادت السلطة العثمانيـة في العراق في القرن السابع عشر صار الشيعـة في المرتبة الثانية في البلاد ، وكان التفـريق ضدهم يجري بشكل نظامي . لقـد أضحى ذلك علامة فارقة لتوزيـع السلطة والامتياز في البلاد طـوال الحقبة العثمانيـة .
لقـد برز اتجاهان حاسمان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، وكـان لهما تأثير عميق على منهج المذهب الشيعي فـي العراق . كـان الاتجاه الأول ذا طبيعة مذهبية كمـا انه كان فعالاً فـي ترسيخ سلطة العلماء على العامة من الشيعة .. ومهد السبيل لبروز مؤسسة (المرجعيـة) وهي تجمع العلماء المجتهدين للعالم الشيعي فـي الحياة السياسية العصرية لكل من إيران والعـراق .
إمـا الاتجاه الثاني الذي أدى إلى تطور الجماعة الشيعيـة في العراق الحديث فهو تحول العشائر في جنوب العراق إلى اعتناق المذهب الشيعـي .
إن هـذه العملية قد بدأت في القرن الثامن عشر واستمـرت طوال القرن التاسع عشر . وبذلك صار الشيعة يؤلفون أغلبيـة السكان في العراق . كمـا أن هذه العملية غيرت بشكل جوهـري من سمات المذهب الشيعـي في البلاد وجعلت المجموعة الضيقـة الموجودة في المدن تتحول إلى مجموعة ذات جذور عميقة فـي التقاليد العشائرية في جنوب العـراق .
كـانت المرجعية الشيعية فـي السابق قوة غير فعالة خارج المحيط الشيعي في العراق ولكنها بـدأت تتخذ دوراً قيادياً فـي الشؤون العراقية بعد سقوط الحكم العثماني فـي 1918 ، وما أعقب ذلك مـن احتلال بريطاني في البـلاد .
إن المجتهديـن الشيعة قد اصطفوا في الواقع مع الأتراك السنة فـي الدعوة إلى جهاد ضد الانكليـز . لقد عبـأوا قوة قوامها عشرون ألف مقاتل للقتال بجانب الأتـراك بقيادة عدد من العلماء مـن المدينتين المقدستين .. أن الهوية الإسلامية للبـلاد كانت مهددة فاتحـد السنة والشيعة ضد المحتليـن .
ونشـبت ثورة العشرين وهي تمثل حدثاً له أثاره المستقبلية فـي تاريخ العراق الحديث استطاع الانكليز أن يقمعوا تلك الثـورة ولكن بثمن باهظ من جانبهم . وقـد صمموا في ما بعد تقليل سلطة المجتهدين الشيعة فـي التأثير بشؤون الدولة العراقية الحديثة أن لم تقـل على إزالة تـلك السلطة بشكل كامل . لـم يكن بوسع العلماء الشيعة المهزوميـن أن يردوا سوى بعدم الاعتراف بشرعية الدولة العراقية وبدعوة أتباعهم إلى الابتعـاد عن الحكومة الوليدة وقـد انقضت مدة تبلغ زهاء أربعين عاماً قبل أن يأخـذ مجتهدوا الشيعة بالنظر من جديد فـي الحاجة إلى عمل سياسي مباشـر .
هنـاك حركات لها دور في تاريخ الإسلام السياسي ألا إنهـا توقفت عن النمو وتحجمت إلى مستوى الشخصيات والكيانات المحدودة ولم يكن لهـا نشاط ملحوظ خارج الأعلام مثل (الجماعة الخالصية) و (جماعة البغدادي) و (منظمة العمل الإسلامـي) و (جماعة الشيرازي) ، كذلك وجد في هيئة علماء المسلمين طابعاً سياسيـاً لا يختلف من حيث النشاط عن بقية الأحزاب ألا أنها لـم تعلن نفسها كحزب أو حركة بقدر ما تعبـر عن نفسها كمرجعية دينيـة .
يـصعب تحديد خلفية تاريخية للإسلام السياسي السنـي ، فالأمانة لم تكن أصلا من أصول المذاهب السنية كافة والتي هـي التوحيد والنبوة والجهاد والعدل ، مثلما هـي لدى الشيعة أو حتى العدل لـم يكن أصلا من الأصول مثلما هـو لدى الشيعة أيضا والمعتزلة بـل بقدر ما يعُد واقعاً محققاً عبر مركز الخليفة الفـاصل في الدنيا والدين .. وعلى اعتبـار أن الدولة بعد تبلور المذاهب اتخذت الفقه السنـي في معاملاتهـا وعباداتها كذلك لا يخفي موقف معظم أئمـة المذاهب السنية ضد الخروج على السلطان مع الحـث على العدل بين الرعيـة .
لابـد من الإشارة إلى وجود تنظيمات سياسية سنيـة لكنها لا تعد بمكان كأحـزاب إسلاميـة دينية وحالها هـذا مثل حال التنظيمات الشيعية التي ظهرت فـي بداية القرن العشرين فـي النجف وكل ما في الأمر أن زعمـاءها من علماء الدين وان أهدافها أهـداف إسلامية عامة تتعلق بحماية الديـن أو الدفاع عن الخلافـة ولا تحمل مشروع دولة الحاكمية مثلما هـو معروف لدى الأحزاب الإسلاميـة .
إمـا الحركة الكوردية الإسلامية ، فهـي الأخرى استفادت من الثـورة الإيرانية لكن مع الحذر من استغلالها طائفيـاً وكثيراً ما وقعت وسط تجاذب إيران من جهة والحزبيـن الكورديين العلمانيين الديمقراطـي والاتحاد من جهة أخرى . ومـن رحمها ظهر التيـار السلفي الكوردي ممثلاً بـ (أنصار الإسلام) و (جند الإسلام) .. بينمـا بدأت تلك الحركة بإطار صوفي واخوانـي ولم يبق من حملة السلاح بينهـا حالياً على غرار ظاهرة الأفغان العرب وحركة طالبـان ، بعد انخراط (أنصار الإسلام) و (جند الإسلام) مع المجاهدين فـي المقاومة المسلحة داخل العراق عبر الموصل . أمـا بقية أحزاب الحركة الكوردية فقـد انخرطت فــي الوضع السياسي ومارست الانتخاب الديمقراطـي بإقليم كوردستـان والعراق ككـل .

قسـم الكتاب إلى بابيـن : الإسلام السياسي الشيعي والإسلام السياسي السُني ، ومع عدم رغبة المؤلف فـي تكريس الانقسام الطائفي حتى وان كان فـي فصول كتاب إلا أن واقع حـال لاهوت السياسة أو الإسلام السياسي فـي العراق على وجه الخصوص لا يكـون إلا طائفياً . فإسلام واحد هو تعبير عن مسمـى حسب ، ومفردة تحمل الكثير من الرياء ، والحقيقـة انه لابد للمسلم من مذهب يمارس أسلامه عبـره وهذا حال الأحزاب الدينية كافـة .
الكتـاب بمجمله عبارة عن رصد للإسلام السياسـي العراقي عبر قرن من الزمن وعبر عـدة عهود من تـاريخ الدولة العراقية وجد المؤلف فيه ما فيه مـن الهنات والنواقص فهو يتصدى لظاهرة مستمرة الانشطار والتبدل فـي المواقف والعديد منها شحيح المصادر وفيـه تناقضات روايات المؤلفين ومنهم شهود عيـان …
لاهـوت السياسة ، بحث فريد في بابه ، فهـو يقدم لأول مرة ثبتاً مفصلاً بالأحزاب والحركات والتنظيمات الدينية فـي العراق على اختلافها وتنوعهـا ويكاد يشكل نوعاً من دليل جامع مانع بأسلوب تاريخي مبسط وشيـق .
ومـع إن المؤلف لا يخفي نقداتـه هنا أو هناك ألا انه يلتزم الحيدة التاريخية معتمداً على الوثيقة المدونـة بياناً أو كتاباً أو مقالة . فالـوثيقة دليل قاطع لا يستطيع صاحبة الإفلات مـن مضمونه وانه مهما كـانت الدلالات تظل موضوع اخـذ ورد .

* الكتـاب :
لاهوت السياسة ، الأحزاب والحركات الدينية في العراق ، تأليف : رشيد الخيون ، ط1 ، دراسـات عراقيـة ، بغداد ، بيـروت ، 2009 ، 476 ص .

[email protected]