23 ديسمبر، 2024 8:14 م

لارس فون تريير مخرج غريب الطباع

لارس فون تريير مخرج غريب الطباع

مقال مترجم

اسمه تتداوله الصحافة الفنية كثيرا، لأنه من أهم المخرجين الأحياء، ولأنه شخص غريب الطباع. فهو موسوس لا يسافر بطائرة أو بباخرة. وحين تعطلت سيارته وهو في طريقه الي كان، عاد الي الدانيمارك من غير أن يحضر المهرجان حيث كان يعرض فيلمه. أسس (العقيدة) الروائية و(العقيدة) الوثائقية، حيث سطر ما يمكن وما لا يمكن أن يفعله (المؤمن) بهذه (العقيدة). تفوق الجوائز التي حصلت عليها أفلامه عدد الأفلام ذاتها: من ترشيح للأوسكار وحتي ذهبية كان. ولعل أهم جائزة حصل عليها علي الاطلاق هي شهادة انغمار بيرغمان حين قال: (ان لارس فون تريير عبقري).
لقد أسسنا، بيتر ألبيك وأنا، ستوديو (زينتروبا) معا، لغرض انتاج أفلامي. وكانت حصتانا متعادلتين: خمسون في المائة لكل منا، لذا كان علينا أن نتوصل الي اتفاق في كل الأحوال. لكن الحالة تبدلت بعد فترة قصيرة. ذهب بيتر بطريق وأنا ذهبت بآخر. لماذا؟ لقد عمل النظام بصورة جيدة، وبيتر منتج جيد، لكن كانت تحصل بيننا مشاكل، ذلك أن تطلعاتنا ووجهات نظرنا وغاياتنا العملية كانت تختلف بصورة جوهرية، ثم ان الراي السائد بأنني أتحكم بأفلامي، لم يكن يطابق الواقع في كثير من الأحيان. ففي فيلم (البلهاء) لم يسمح لي ألبيك وفينداو باستعمال الفيلترات الا بعد فترة الانتاج. وهذا جنون مطلق، إذ بدون الفلترات، قد كان يمكن أن لا يصل المغزي الرئيس للفيلم الي المتفرجين. ان المشكلة مع (العقيدة) تكمن ــ جزئيا ــ في أن أحدا لا يأخذها علي مأخذ الجد بصورة كاملة. فقد قوموها علي أنها طرفة. وحسب ما يري الكثيرون، لا يمكن أن يخطر علي بال أحد أن يحبس نفسه في مثل هذه الحدود الضيقة. فذلك يشبه أن تشعل النار بمساعدة كسرتي صخر بدل استعمال قداحة رونسون.
معلوم أن أم نابليون كانت تحب ابنها، وأنها كانت تعد كل ما يعمله مدهشا. أمي كذلك. حين كنت أرسم شخبطة علي ورقة، كانت تقول انها رائعة. ان مثل رد الفعل هذا يلهم، ويولد الرغبة في الابداع. وكان في عائلتنا مثلها مثل أية عائلة أخري، أسرارها المزعجة الخاصة، وأنا كنت طفلا حساسا، وكانت استثارتي ــ علي ما أذكر ــ سهلة في أي وقت، مما يبعث علي اصابتي بالقلق والشعور بالعصبية. يبدو أن تطوري الفني، في طفولتي، كان يحتاج الي المديح، زيادة علي أن الفن كان يشبع متطلبات التهرب الطفولي الطبيعي، ذلك أنه كان وسيلة للابتعاد عن عالم الكبار: لقد أبدعت عالما كنت قادرا علي التحكم فيه. وقد جئت الي حرفة الاخراج، بالدرجة الأولي بسبب النزوع نحو التحكم بالعالم كله، وهكذا أري في هدف الابداع صنع عالمي الخاص فقط. ولذا لم يكن فني يوما ما منبعا لقلقي: لم أخف أن أصنع شيئا غير جيد بدرجة كافية، ذلك أن الدافع شيء آخر.لا يمكن الجزم بأن ما أمارسه لن يبدو عاجزا عن الحياة من وجهة نظر المتفرجين أو في ظروف معينة، لكني لم أشك أبدا، في مزايا عملي العميقة، أو في تلك الأهمية لهذا العمل، بالنسبة لي أنا. هنا لا وجود لأي علاقة بوجود أو غياب الموهبة. انها فقط، مسألة النظرة الخاصة الي نفسي. حين تتحرر من القلق تتحرر عندك كمية هائلة من الطاقفة الابداعية، ذلك أن الناس يفكرون هكذا: (لن أستطيع تحقيق ما يينتظرونه مني). أما أنا فمثل هذه الشكوك، لم تعذبني مطلقا. لكني لا أستطيع القول متأكدا، أني لن أعاني ــ مستقبلا ــ شيئا من هذا القبيل، لكني واثق أن قوة هائلة تكمن في اعتبار الذين لا يقدرون مزاياك أغبياءا.

الأحمق

مهم جدا أن تُظهر نفسك أحمقا ولو مرة واحدة، وبالأخص في بداية طريقك. وممتع ــ دائما ــ أن تشاهد الفيلم الذي يعبث المخرج فيه، وهذا ينطبق ــ عمليا ــ علي كل المخرجين، الذين تستحق أفلامهم ــ اليوم ــ الاهتمام. فمثل هذا الفيلم (الأحمق)، الفاشل، يحتل ــ دائما ــ في سيرة حياة الفنان مكانا متميزا، وتغرينا في الأقل، مشاهدته من جديد لاحقا. وتجد في مثل هذه المعابثة جوهر ما سيأتي لاحقا. ذلك أنك تبدو أبلها لأنك تعري روحك، تحديدا.
لم أمارس ــ أبدا ــ التمارين الجمالية ، لمجرد تجريب شيء ما. فأنا أصنع الشيء المعين، لمجرد الحاجة لصنعه هكذا. الأفكار ذاتها، والمقتربات الأسلوبية ذاتها، تظهر من جديد في أعمالي اللاحقة، لكن أعمالي المبكرة قد أعطتني امكانية التجريب بتقنية معينة. كان عظيما أن أستعمل الاستعراض (tracking shoot) أو الكادر الجامد (freeze frame) لأول مرة. وقد تعاملت مع الأقنعة الأفقية والعمودية. النتيجة كانت لا بأس بها، لكن العمل نفسه كان ممتعا الي أقصي الحدود، لكن ذلك لم يكن مجرد تمرين اسلوبي. فيلمي الأول (حدائقي من حديقة مثمرة) ليس رديئا علي الاطلاق. فقد جربت فيه كثيرا من المصورين. منذ مدة طويلة لم أشاهد هذا الشريط، ومشاهدته ثقيلة، لأن روحي فيه عارية. مع الزمن تأتي المقدرة علي عدم كشف الروح الي هذه الدرجة، والاكتفاء بعرض مقدار ما هو ضروري فقط. ويظهر عنصر التحكم بالنفس، في حين لم يكن موجودا سابقا. (حدائقي من حديقة مثمرة) كان (مجنونا)، فهو تعبير عن الذات لشاب مر بحالة سيئة. أما ما يخص المواضيع المثيرة، فأنا لم أتغير أبدا، كل ما هناك فقد صرت أفضلَ تحكما بنفسي. فالقضية في أنك حين تبدأ في عمل عملك بصورة أفضل، يصبح سهلا ارضاء أية متطلبات كانت، لكني أحاول ــ دائما ــ اجبار نفسي علي الشروع في شيء مّا، لم أتقنه من قبل. يبدو هذا الكلام متعال جدا، لكنها الحقيقة. يمكن أن تتعلم عمل شيء مّا بصورة جيدة، بدرجة يصبح النظر الي النتائج مملا حتي الغثيان. وكان يمكن أن يحدث ذلك معي لو أني صورت الفيلم ذاته في كل مرة أصور فيها فيلما، كما يعمل ذلك البعض. في حالة فيلم (أوروبا) فقد أدركت أني وصلت الي نهاية الطريق. فكل شيء كان جماليا، مصنوعا باتقان، بحيث أن شيئا جديدا مّا، لا بد أن يولد. وشعرت بالشيء ذاته في حالة (الراقصة في الظلام).
هناك من يظن أن الاستفزاز ينبغي أن يوجَّه الي الآخر، الذي يسمعك ويراك. لكن ذلك ليس ضروريا. فمهما عملت، فأنا أحاول دائما تقريبا، أن أستفز نفسي ذاتها والنظر الي المشكلة، التي تشغلني،من وزاوية اخري. وفي مجال اهتماماتني غالبا ما تدخل المسائل ذاتها: الأشكال المختلفة للانحرافات الجنسية، وكل طيف الاضطرابات النفسية. أنا، مثل فرويد، أحسب الجنس قوة محركة لها أهمية هائلة في حياة البشر. يبدو أن هناك علاقة قريبة بين الجنس والفن. ولا أعرف ان كانت هذه العلاقة قوية بشكل خاص في أفلامي، لكن لا أستبعد أني من خلال الأفلام تحديدا، أحقق الجزء الأكبر من الجنس الخاص بي ، بدل أن أنطلق في حياتي الخاصة بصورة فوضوية. هناك بعض المخرجين الذين يتصرفون بطريقة معاكسة، ذلك أن الشيء ذاته يمكن عمله بطريقة مغايرة تماما.

سيكولوجيات أبطال

في السنوات المبكرة لم أكن أرغب في الحوار مع الممثلين حول وجهات نظرهم الي سيكولوجيات أبطالهم. كان لدي تصور دقيق جدا عن ما أريد، لكن هذا لا يعني أني لم أعط أهمية للتمثيل. فالممثل ظل عنصرا مهما في كل افلامي، كل ما هناك ان الناحية السيكولوجية ــ ببساطة ــ لم تكن تهمني.
الشخصيات تسرد القصة أيضا. المسألة تكمن في ما نعنيه بكلمة (قصة). فلو أخذنا جميع القصص العظيمة وحذفنا منها القضايا الجوهرية، فلن يتبقي في جميع الفن العالمي سوي من خمس الي عشر تنويعات أساسية. فهل يتعين علينا في هذه الحالة أن ندرس الشخصيات فقط في حالة أن تكون احدي هذه التنويعات موجودة في أساس الفيلم، وأن نمتنع عند عدم وجودها في هذا الأساس؟.ان هذا سيكون تحديدا شديدا. فالكلام ــ بمعني معين ــ يدور حول ما تنتظره قاعة المتفرجين. فلا ينبغي السماح للمتفرج بالانقطاع، مع أن انقطاعه لا يحتاج للكثير. لقد أصبح هذا الأساس السيكولوجي في أفلامي ملاحَظا أكثر الآن، لكن هذا لا يزعجني، لأن تلوينه وتزيينه ــ كما يبدو لي ــ أصبح الآن ممكنا بطرق متعددة. وحتي في الفترة المبكرة حين كانت السيكولوجيا لا تهمني، كنت أدرك أن غالبية المتفرجين تستطيع البقاء في القاعة حتي نهاية الفيلم، فقط في حالة وجود محور للقصة، أي الشخصيات. ربما بدت لي محاولة ادخال السيكولوجيا تلك في واقع الشاشة احتيالا، في حين ان ما له أهمية في واقع الحال، هو شيء آخر، وأنا ــ بصورة عامة ــ لست من مناصري الاحتيال.
أنا ــ علي خلاف الكثيرين ــ لست متحمسا للأفلام الأمريكية. أذكر حين كنا ندرس في كلية (السينما ووسائل الاتصال الجماهيري) كان هناك عدد من الذين يحبون السينما الأمريكية. ولم أكن أشاركهم حبهم لأفلام الحركة أو العصابات. كنت أعد هيوستين مخرجا جيدا وكنت أحب أفلام همفري بوغرت، لكنها لم تكن لتحمل أهمية كبيرة بالنسبة لي، لكني كنت مجنونا بالواقعية الجديدة. وتلهمني التقاليد الأوروبية أيضا، لأننا نصطدم دائما مع نموذج الحياة الأمريكي يوميا، ولهذا فهو يبعث علي الملل. نحن مع الزملاء نحاول عمل أفلام عاطفية بدرجة تجعل حتي الأمريكان يخجلون من التوقيع عليها. نعم انهم يخجلون من عمل مثل هذه الفلام. لكن ومع ذلك، فان الأفلام الهوليوودية الموازية لم تثر اهتمامي أبدا. أنا طبعا شاهدت أفلام دوغلاس سيورك، لكن لأن ذلك كان ضروريا للطالب الذي يدرس السينما.
حين تعمل في الفن ينبغي أن تستفز نفسك دائما. والآن أحاول في افلامي أن اكون عاطفيا الي اقصي الحدود. ولدي في هذا المجال تجربة جيدة. أعتقد أن العاطفية تتم عندي بشكل جيد، علي الرغم من أن الناس هذه الأيام يحاولون مقاومة ذلك.
لكن لا جدوي من ذلك: سواء أردنا أم لا، فان الأفلام الأمريكية تأثر علينا، لأننا لم نشاهد سوي الأفلام الهوليودية، سواء في طفولتنا أم في شبابنا.