18 ديسمبر، 2024 8:13 م

لاتلمسوا ساكن الغيوم هذا

لاتلمسوا ساكن الغيوم هذا

في تجربة ستالين الطويلة في الحكم السوفيتي , والتي تفردت بقبضته الحديدية ضد معارضي أفكاره وسياسته ونهجه المتسلط بالتطهير لخيرة مثقفي وسياسي الاتحاد السوفيتي وممن يحملون أراء ووجهات نظر مختلفة تجاه سياسة البلد وطرق بناء الشيوعية , أعداد كبيرة شملوا بسياسة التطهير الحزبي والفكري والثقافي . كان بوريس باسترناك الشاعر والكاتب والرسام ضمن لائحة المغضوب عليهم في معارضتهم للسياسة الستالينية وأدواتها في تحقيق بناء المجتمع , مع ثمة أسماء على مكتب ستالين المتهمين ضد ثورة أكتوبر وسياسة البلد . فعلق على أسم بوريس باسترناك .
( لاتلمسوا ساكن الغيوم هذا ) .
ولد بوريس باسترناك ٢٩ يناير عام ١٨٩٠ في موسكو لأب يهودياً فتحول فيما بعد الى الكنيسة الارثوذكسية , وكان والده رساماً وأستاذاً فنياً متميزاً . وأمه روزا كوفمان عازفة بيانو شهيرة .
أعطت تلك البيئة لبوريس باسترناك في نشأته الأولى الاهتمام بمواضيع الثقافة والفن , مما حددت مساراته منذ البدايه . كانت علاقة والده بالكاتب الشهير ( ليو تولستوي ) وزيارته المتكررة الى بيتهم وخصها في الاحاديث الادبية . تركت أثرها الواضح على أهتمامات ( باسترناك ) الواسعة . ففتحت له مجالاً للسؤال والقراءة والتخصص . في الحرب العالمية الأولى عمل في مختبر للكيمياء مما منحته مساحة في البناء الدرامي لروايته الوحيدة ( دكتور زيفاكو ) والتي تعتبر أشهر ما كتبت من عمل ملحمي نثري في القرن العشرين , والذي منح على أساسها جائزة نوبل للاداب عام ١٩٥٨ والذي رفضها , بعد ان أستهدف من زملائه في أتحاد الكتاب السوفيت السلطوي وشنوا عليه حملة كبيرة طالبوا ستالين بعريضة طويلة بطرده من الاتحاد السوفيتي . فذهب بنفسه الى دائرة البريد وحرر خطاباً مقتضباً بقلم الرصاص الى الاكاديمية السويدية يرفض بها الجائزة . عام ١٩٦٠ مات بمرض سرطان المعدة ومشى خلفه في توديعه الأخير قلة من أصدقائه ومتابعيه . كان حلمه كبير بالبلاشفة وثورتهم وحلم التغير المنشود في بناء الانسان والمجتمع مثله مثل ماياكوفسكي والذي أنتحر في عز عطائه وشبابه تمرداً على يوميات الواقع ويأسه من أفق التجربة .
باسترناك سرعان ما تبدد وشعر بالاحباط واليأس وترك كتابة الشعر للثورة ومنجزاتها وتطلعاتها العالمية . وتفرغ لترجمة الشعر العالمي الى الروسية . فبدأ بترجمة شكسبير ( هاملت .. الملك لير ) . منذ كتاباته الأولى تأثر بالشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف وبكتابته للشعر في البناء اللغوي . درس في بداية حياته علم الفلسفة , لكن سرعان ما تركها متجهاً الى الادب والشعر , لكنها أثرت به لاحقاً في أنجازاته الادبية من شعر ورواية . كتب روايته الوحيدة ( دكتور زيفاكو ) والتي تعتبر ملحمة رومانسية وقيمة فنية وأدبية ترصد الحدث بعين مثقف واعي حول الثورة البلشفية وحلمها المنشود في تحقيق حلم الانسان , أنها تجمع بين فن الرواية والسيرة الذاتية , أنها قصة متعددة الطبقات بدءاً بالعام ١٩٠٣, وإثر موت والدة يوري جيفاكو . أما والده وهو صناعي غني , فقد أنتحر جراء التأثير المحبط الذي مارسه محاميه ( كوماروفسكي ) . تعامل مع شخصيات الرواية من خلال حياة عائلة روسية واكبت يوميات ثورة أكتوبر وتطلعاتهم بأهدافها من خلال حياة المجتمع والحرب والثورة والحب والعلاقات العائلية . بسبب أنتقادها للثورة البلشفية لم تتجرأ أي دار نشر روسية على طبعها , مما أضطره أخيراً الى تهريب مسودتها الى أيطاليا وطبعها هناك عام ١٩٥٧ في أوج رتابة أيام الحرب الباردة . حظيت بدعم كبير من أدباء العالم والمؤسسات الثقافية , بينما تعرضت في داخل روسيا الى الانتقاد والتشويه من قبل الادباء والشعراء السوفيت , وطالب أتحاد الادباء السوفيت الرئيس ستالين بطرده من البلاد . صدور الرواية وأحداثها باتت محوراً للصراع السوفيتي الامريكي . وقد قيل لاحقاً , وهذا ضمن التكهنات أن المخابرات الامريكية هي التي ضغطت على الاكاديمية السويدية بمنح جائزة نوبل للاداب ( ل بوريس باسترناك ) , وهي وراء ترجمة الرواية الى أربعين لغة عالمية تدخل ضمن سباق الحرب الباردة وتعرية النظام الشيوعي وتجربته . بعد موته بخمسة أعوام تحولت الرواية الى فيلم سينمائي طويل أخراج المخرج البريطاني العالمي ( ديفيد لين ) وأدى دور الدكتور زيفاكو الممثل المصري عمر الشريف ومثل دور زوجته ( جير الدين تشابلن ) أبنة الفنان الكوميدي الشهير تشارلي تشابلن وألف الموسيقى الموسيقار الفرنسي ( موريس جار ) , وحصل الفيلم على خمسة جوائز أوسكار , ويعد ثامن فيلم عالمي على مستوى شباك التذاكر . كنت أطمح ضمن دراستي الجامعية في الادب الروسي في جامعة بغداد أن أتخصص بحياة ومنجزات الشاعر والروائي والرسام ( بوريس باسترناك ) بما يحمله من رؤيه نقدية وقراءة متأنية وشجاعة للحدث .