واحدة من الامور الملفتة –وربما الغربية-هي ان مختلف الاوساط السياسية والاعلامية العربية وحتى غير العربية، تنشغل مع كل انتخابات رئاسية اميركية الى حد كبير بمجمل تفاعلاتها وتداعياتها ونتائجها النهائية، وكأن مخرجات هذه الانتخابات سيكون لها اثر كبير في تغيير موازين القوى، وانقلاب المواقف والتوجهات، وصياغة المعادلات.
وفي الانتخابات الاخيرة، بمجرد الاعلان غير الرسمي عن فوز المرشح الديمقراطي جو بادين، على حساب خصمه الجمهوري دونالد ترامب، راحت برقيات وبيانات التهاني والتبريكات لبايدن تتولى من رؤساء وملوك وامراء ووزراء مختلف دول العالم، مقرونة بأمنيات وامال صريحة او ضمنية بتصحيح المسارات الخاطئة والمنحرفة للسياسات الاميركية في عهد الرئيس الخاسر دونالد ترامب، وكبح جماح النزعات والتوجهات العدائية للاخير، والتي تسببت بأضطراب ليس على صعيد العلاقات الخارجية للولايات المتحدة، وانما بفوضى وارتباك كبيرين في الساحة الداخلية، كادت ان تدخل البلاد في اتون حرب اهلية جديدة، علما ان البعض يرى ان شبح هذه الحرب مازال قائما ولم يختفي بفوز بايدن وهزيمة ترامب.
قد يكون ارسال برقيات التهاني والتبريكات بمختلف الوسائل والاساليب من قبل زعماء الدول، عرف تقليدي في حال فوز اي شخص بمنصب رفيع المستوى، لاسيما اذا كان ذلك المنصب هو رئاسة الولايات المتحدة الاميركية، ولكن هذه المرة بدا الامر مختلفا الى حد ما لمن يقرأ ويتمعن بما بين سطور برقيات التهاني والتبريكات، اذ ان هناك اجماعا او شبه اجماع عالمي على ان سياسات ترامب الخارجية والداخلية عمقت المشاكل والازمات في المشهد العالمي، وجعلت الولايات المتحدة الاميركية دولة منبوذة، ناهيك عن الانقسامات الحادة في صفوف المجتمع الاميركي المتعدد الاعراق والاثنيات.
ففي عهد ترامب انسحبت واشنطن من الاتفاق النووي المبرم بين الجمهورية الاسلامية الايرانية من جانب، والدول الدائمة العضوية في مجلس الامن الدولي زائدا المانيا من جانب اخر، وانسحبت من اتفاقية باريس للمناخ، وجمدت عضويتها في منظمة الصحة العالمية في الوقت الذي كان العالم-ومازال-يواجه واحدة من اخطر الكوارث الصحية المتمثلة بجائحة كورونا، ناهيك عن ان ترامب وسع جبهات المواجهة والصراع مع الصين وروسيا وقوى اخرى، واكثر من ذلك، فتح جبهات جديدة، وبالغ في دعم ومساندة الانظمة والحكومات المارقة، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني.
والانكي من ذلك كله، هو ان ترامب، ان لم يكن قد ساهم عبر قراراته ومجمل سياساته الارتجالية بأحداث انقسامات مجتمعية حادة في الولايات المتحدة الاميركية، فأنه هيأ الارضيات والمناخات المناسبة لتأجيج الخلافات والاحقاد والنزعات العنصرية، او بتعبير اخر، انه اضطرم نيران العنصرية التي كانت كامنة تحت الرماد!، بحيث ان الحديث في شتى وسائل الاعلام والمحافل الفكرية والثقافية والسياسية الاميركية عن العداء بين السود والبيض، بات واضحا وصريحا ولاتصده او تكبحه اي محددات او ضوابط وقيود، واصبحت مفردة الحرب الاهلية الثانية تشغل حيزا غير قليل في الادبيات السياسية والاعلامية، الى جانب الشارع الاميركي.
لاشك ان الكثيرين يعقدون الامال على بايدن لتصحيح اخطاء سلفه ترامب، وربما تكون مجمل اطروحات بايدن وطبيعة توجهاته السياسية، تؤشر الى امكانية حصول تغييرات ايجابية، والتقليل من حجم التعقيدات والمخاطر في بعض الملفات العالمية، مثل العودة الى منظمة الصحة العالمية، وكذلك العودة الى الاتفاق النووي مع الجمهورية الاسلامية الايرانية، والعودة الى اتفاقية باريس للمناخ، وغيرها من الملفات، والتقليل من حجم تورط واشنطن في الحروب والصراعات الاقليمية هنا وهناك.
ولعل الارقام الاجمالية للانتخابات الرئاسية الاميركية الاخيرة، تشير-حتى وان لم تكن دقيقة بالكامل-الى ان ما نسبته 69% المسلمين الاميركان، واغلبهم من اصول عربية واسيوية وافريقية قد صوتوا لصالح للمرشح الديمقراطي جو بايدن، فضلا عن النسبة الكبيرة من السود والعرقيات الاخرى التي صوتت بذات الاتجاه، ليس ذلك فحسب، بل ان هناك من يتحدث عن ان غالبية يهود الولايات المتحدة خذلوا ترامب وصوتوا لصالح خصمه بايدن، رغم ان الاول خطى خطوات كبيرة فاقت ما قامت به اسلافه باتجاه دعم وتقوية الكيان الصهيوني على حساب العرب والمسلمين، ولكن يبدو ان هناك حقيقة مهمة للغاية، ربما لم يلتفت اليها الكثيرون، تتمثل في ان اللوبي اليهودي الذي يعد الطرف الاكثر تأثيرا ونفوذا في توجيه مسارات الانتخابات الاميركية، لايرمي بكل ثقله المالي والاعلامي والسياسي لصالح مرشح معين، ويدير ظهره للاخر، بل انه يحرص على الموازنة بين الاثنين، لانه يضع كل الاحتمالات في حساباته، وتؤكد تقارير عديدة ان ما حصل عليه بايدن من دعم من كبار رجال الاعمال اليهود في الولايات المتحدة فاق ما حصل عليه ترامب، وطبيعي ان مثل هذا الدعم لم يأت من فارغ ولا هو لوجه الله تعالى.
وهنا تتعزز التصورات والاراء القائلة، بأن جوهر ومضمون السياسة الاميركية يتحرك بخطوط ثابتة ومسارات واضحة سواء كان الجمهوريون هم من يتربعون على عرش البيت الابيض او غرمائهم الديمقراطيين، انطلاقا من حقيقة ان من يرسم ويوجه السياسات الاميركية ليس الرئيس وانما جهات تتحكم بمفاصل رأس المال والهيمنة الاقتصادية والنفوذ المالي بالدرجة الاساس، دون ان يعني ذلك التغافل عن حقيقة وجود عوامل وظروف ومؤثرات اخرى تساهم بنسب متفاوتة بتوجيه قناعات الناخبين بنحو ما لصالح هذا المرشح او ذاك، وهذا ما نجح بادين في استثماره وتوظيفه بشكل جيد، وما فشل ترامب في تجنب تبعاته واثاره السلبية، اذ ان الولاية الرئاسية للرئيس الحالي دونالد ترامب شهدت الكثير من الاحداث والوقائع والمواقف التي كانت كافية لان تؤدي الى خسارته في السباق الرئاسي، وبالتالي الفشل في الحصول على ولاية ثانية مثلما نجح في ذلك اسلافه من الجمهوريين والديمقراطيين، واخرهم الرئيس السابق باراك اوباما(2008-2016)، فالسياسات الترامبية المتهورة المعادية للمسلمين وللسود والمهاجرين ولذوي الدخل المحدود، انعكست بوضوح من خلال صناديق الاقتراع وبالتالي، كانت مخرجاتها عبارة عن ارقام عالية لبادين ومتدنية لترامب.
وعود على بدء، فأن بايدن المعروف عنه خلال مسيرته السياسية الممتدة لاكثر من اربعين عاما، تبنيه مواقف مساندة لاسرائيل، وطرحه مشاريع تقسيمية لبعض دول المنطقة، واخرها العراق، حينما كان يشغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس، قبل ان يدخل البيت الابيض نائبا لاوباما من عام 2009 وحتى 2017، لن يحول صورة اميركا السوداوية القاتمة الى صورة ناصعة ومشرقة، لانه حتى لو اراد ذلك، لن يستطيع فعل كل ما يريده، لذا لاينبغي الذهاب بعيدا في التفاؤل والاستغراق كثيرا في الحماس، لان التغيير في الولايات المتحدة الاميركية غالبا ما يقتصر على الوجوه دون المضمون!.
————————–