فيما قبل انتخابات العام 2010 بأسابيع توقعت أن يمكث المالكي رئيسا للوزراء، مهما تكن نتيجة الاقتراع. واليوم أقول إنه سيمكث رئيسا، أيضا، ولكن بالعدد الأعلى من المقاعد، مهما قال المنافسون أو فعلوا.
أعلم أن هذه حالة تشاؤمية مبالغ فيها، ولكن الواقع العراقي الحالي لا يسمح بغير ذلك. ففي تاريخ الشعوب المشابهة لحالة شعبنا، من فجر التاريخ أو من بدء كتابته على وجه التحديد، وقائع ثابتة تؤكد أن الفائز دائما في الانتخابات والاستفتاءات العامة هو (الحاكم) القوي الذي تخاف الجماهير العريضة من ظلمه أو من جهله، أو تطمع بعطاياه، وهي تعلم بأنه الوحيد القادر على الإغداق، ولا يهمها أن يقال إن إغداقه فساد وعطاياه اختلاس، فهي قبل غيرها وأكثر من غيرها خبرته جيدا وخبرت حاشيته وزبانيته، وذاقت منه ومنها المرار.
وفي الدول ذات العاهات المستديمة التي سبقتنا في التخلف والتزوير والافتراء غالبا ما يصبح الباطل حقا والظلم عدالة والفساد شطارة. وحين يكون المرشح رئيسا للجمهورية أو رئيسا للوزارة، أثناء فترة الانتخابات، فلا أمل في الاحتكام لضمائر الناخبين وعقولهم، إلا في النادر القليل. هذه هي القاعدة وما عداها شوارد عابرة. والأقرب إلينا من الأمثلة حافظ اسد وصدام حسين وحسني مبارك وبن علي وبشار وعمر البشير وعلي عبد الله صالح. جميعهم كانوا جلادين لشعوبهم ولكنهم منتخبون وبنسب تتجاوز المعقول.
وهذا لا يحدث في انتخابات الدول فقط، بل يحدث أيضا في انتخابات الأحزاب والهيئات العلمية والأكاديمية، ويحدث أيضا في النوادي والدكاكين.
وقد تحدث عن أحوال الجماهير العريضة سقراط وأفلاطون وإبن خلدون والمتنبي وأبو العراء المعري والرصافي وعلي الوردي والسياب، وكثير من الفلاسفة والمفكرين والأدباء في كل آداب الكرة الأرضية الواسعة، وكشفوا أنها كانت في أغلب حالاتها ترى الحق وتجانبه وتعرف الصواب وتزوغ عنه تبعا للظروف.
فلو أجلسنا أجهل البشر وأكثرهم فسادا وأبغضهم إلى أهله على كرسي قيادة الدولة أو الحزب أو العشيرة، ومنحناه البنك المركزي والجيش والشرطة والأمن الوطني والأمن الخاص والمخابرات والصناعة والتجارة والزراعة والري والأوقاف والمحاكم والسجون والثقافة والفنون، وأتخمنا شوارع المدينة بصوره المتنوعة، ضاحكا مرة، وعابسا مرة، لأصبح غزالا في عيون الجماهير العريضة، وليس في عيون أمه وحدها، ولدبجت في مدحه القصائد وأطلقت الأغاني والأهازيج، وأقيمت التماثيل، وصار هو الأعلم من الجميع والأكثر أمانة وشجاعة ومروءة. ومن الذي ينسى كيف كانت الجماهير العريضة تزحف على بطونها لتهتف بالروح والدم لجلاد قامت هي ذاتها فيما بعد بضرب تماثيله وصوره بالأحذية؟. وهل ننسى ذلك المواطن الذي جرح يده وختم بدمه على استمارة الاستفتاء تأييدا لصدام حسين في الثمانينيات؟
مناسبة هذا الكلام هي إعلان أحد نواب العراق الديمقراطي الجديد أن لديه وثائق تثبت أن هناك نية لتزوير نتائج الانتخابات والضغط على منتسبي الاجهزة الأمنية للتصويت لقائمة القائد العام للقوات المسلحة”. وقال نائب آخر إن رئيس الحكومة أصدر توجيهات بفصل أي قائد فرقة تصوت فرقته بأقل من 80% لدولة القانون. والأكثر غرابة أن رؤساء قوائم منافسة للرئيس طلبوا استقالة الحكومة الحالية لإجراء الانتخابات في ظل حكومة محايدة. وحذر آخرون من استغلال البسطاء من المواطنين وإغرائهم بالمال والشعارات الطائفية لكسب أصواتهم، آملا أن تقوم الشرائح الواعية والمثقفة بانتخاب التيارات البعيدة عن الشحن الطائفي وغير الملوثة بفساد المال العام. في المشمش.
خلاصة الكلام أن قائمة دولة السيد الرئيس ستفوز بأغلبية أصوات الناخبين، شئتم أم أبيتم، بالحلال أو الحرام، باللين أو الشدة، بالمال أو بالسلطة، وسيبقى لاصقا بكرسي الرئاسة ديمقراطيا وبأصوات الناخبين، ولو كره الكارهون.
ربما يكون المعارضون الذين تحدثوا عن أوامر رئاسية لمنتسبي الأمن والشرطة والجيش بالتصويت لقائمة السيد الرئيس واهمين ويتخيلون أمورا لا تحدث. فالرئيس ليس في حاجة لأوامر من هذا النوع خوفا من أن تتسرب إلى خصومه. فهو يعلم علم اليقين أن لا أحد من الضباط الكبار ولا الصغار، وحتى من الجنود، مخيرٌ في التصويت، وقادرٌعلى استخدام حقه الطبيعي الذي أقرته الشرائع الدنيوية والسماوية كلها وألحت على التمسك به في مواجهة الظلم والاستعباد.
فمن المؤكد أن الجماهير العريضة الجائعة والجاهلة والخوافة ستصوت، متطوعة وراضية مرضية، لدولة السيد الرئيس، وتعطيه ما يحتاجه من أصوات، وزيادة. ليس لسواد عينيه، بل لكرسي رئاسة الوزارة الذي يجلس عليه. أما برامجه الانتخابية وخامة مرشحيه فهي آهر ما يعني شرائح واسعة من هذه الجماهير. والدليل على ذلك أن أغلب الذين خاضوا الانتخابات السابقة ودخلوا مجالس المحافظات والبرلمان والحكومة فازوا فقط بإعجاب الجماهير بعلمهم وخبراتهم ونزاهتهم واستقامتهم وصدقهم وشجاعتهم، فلم ينفق أي واحد منهم إلا من مال حلال، مما ورثه عن أبيه وجدوده، أو مما ادخره في غربته في مقاهي دمشق أو طهران أو لندن أو الرياض أوعمان أو واشنطن، من عرق الجبين ومن سهر الليالي.
وقد ثبت بالوجه الشرعي، على مدى سنوات من الخراب، أن أحدا منهم لم يمد يده إلى مال حرام، أبدا، ولم يعين أخاه أو ابنه أو صهره وزيرا أو سفيرا أو مديرا عاما وهو أمي لا يستطيع كتابة جملة مفيدة.
إن لدى الرئيس وظائف حكومية يسيل لها لعاب الكثيرين، ليس من المحرومين والجائعين والمعوزين، فقط، بل من قادة ونواب رئيس وزراء ووزراء عادوا جماهيرهم وانحازوا لمن يجلدها، علنا وعلى رؤوس الأشهاد، وارتموا بأحضانه الدافئة، وصاروا أدواته التي يستخدمها عند الحاجة وحسب ما تأتي به الظروف.
أما المعارض الذي سيخوض هذه الانتخابات أملا في نزاهتها وطمعا بصحوة ضمير الجماهير العريضة فهو مغامر حسن النية غاب عنه الكثير من الدلائل والوقائع والبراهين التي تقول للعمى قبل المبصر إن الديمقراطية في بلادنا وهمٌ، وإن طلابها واهمون. خصوصا وأن الرئيس المرشح لا يستخدم قوته وحدها، بل يحارب بسيوف أصدقائه وحلفائه الأقوياء. ولا أحد يجادل في أن وراء الرئيس قوتين قاهرتين تؤيدانه وتمدانه بالصولجان، على أساس أن شرا تعرفه أفضل من خير لا تعرفه. وقد أثبت لهما، في طول السنين الفئتة، أنه العصا التي يهشان بها على العبيد، ولهما فيها مآرب أَخرى.
أبشركم بفوز السيد الرئيس ومن اليوم. وسيسقط في الانتخابات المقبلة جميع أهل العلم والخلق والشهامة والنزاهة، وسيبقى الوطن خروفا مشويا على موائد اللئام، ما دامت جماهيره العريضة لا تفرق بين الألف وكوز الذرة، كما يقول المثل.
لا أمل في تحقيق العدالة والديمقراطية والسلام في العراق إلا بأدي الجماهير العريضة ذاتها. فما لم يتم تنويرها وتثويرها وأثارة حميتها النائمة وكرامتها المهانة ودفعها إلى النظر إلى شعوب العالم التي تحترم نفسها فلن يتنازل السيد الرئيس، طواعية، عن مجده التليد، وهو يعلم أن ساعة نزوله عن الكرسي هي بداية المذلة الدائمة والمحاكمات التي لن تنتهي.