لازال دم الضحايا يمتزج بالخراب والتفتيت الذي سُلّط علينا خلال الحقبة العراقية الجديدة , ليس في حي الكرادة وحسب مع عظم الفاجعة وهولها بل في كل شبر في بلاد القهر والبلاء , بالامس كان سوق عريبة وشلال وبغداد الجديدة والاسماء كثرت حتى أصبح بعضها في غياهب الذاكرة فما من زقاق ولا حارة ألا وأصابتها ريح الدمار الشامل الذي يخطط له بأتقان وبمنهج ظلامي كالح لتفتيت العراق وأهله , ولم نعد نشعر بالاسى والحزن وحسب بل تعدى الامر الى الاحساس بأننا مغدورون وبأن عقولنا قد غسلت بدهاء الرمزية والمرجعية والزعامة والضرورة , فقدنا الاحساس بالقدر وبالزمن وبكل المعاني الانسانية , ولم يعد يجدي البكاء والتعزية والمواساة التي تآلفت مع الروح لاتغادرها وقد أحاطتها وضربت عليها القيود فلا سبيل من التحرر من تبعياتها .
وقد عجزت القواميس السياسية وبكل ما تلاطمت عليها من مفاهيم وعلى مدى التأريخ البشري من أن تجد مفهوماً محدداً لما تمر به الحقبة العراقية الجديدة وأخذت عقولنا تفقد الادراك والوعي بماهية المحكومية التي تأسست خلال تلك الحقبة , وصار من الصعب تسميتها أو توصيفها بما يناسبها , هل هي أنتهاج لمفهوم الديمقراطية أو السلطوية أو التبعية والرمزية أو التقليدية أو الولائية أو أننا في خضم صراع وجودي أسموه بالعملية السياسية , فلا زلنا بعيدين من تأسيس نظام حكم تقوم على أساس بنيانه دولة بكل معانيها وممارساتها وتطبيقاتها , وبتنا اليوم أقرب من التفتيت لظهور تلك المفاهيم وانحسار المفاهيم الانسانية والاخلاقية وأخذ الشعب يتقبل الخراب وهو ينتظر الخلاص من الضرورة أو القائد المصلح أو المخلّص أو المختار الذي لابديل له ولاعديل والذي عجزت الامهات من أن يُنجبن مثله , فلا يوجد في هذا الشعب غير تلك الكوكبة الملائكية التي خُتم أسفل ظهورها بأنهم لهذا اليوم موعودون وأن علينا التسليم والقبول وألا نحن من القوم المندسين .
ثم عجزت كل التوصيفات والتعريفات والمدونات العالمية من تأسيس تعريفاً جامعا شاملاً لتصف به المسؤولية بشكل عام وتجيب عن سؤال قد عبر الابعاد المتعارف والمتفق عليها وهو ماهي صفة المسؤول في العراق , وبالبحث البسيط نحصل على تعريف المسؤولية بأنها ( تحمل الشخص نتيجة التزاماته وقراراته وأختياراته العلمية من الناحية الايجابية والسلبية أمام الله أولاً وضميره ثانياً وأمام المجتمع ثالثاً ) , والمسؤولية هي فهم وأنجاز ولها شروطها وهي الفهم والاخلاص , التخطيط والتنظيم , العمل والممارسة الميدانية , المتابعة والتقويم , الاستمرار والانتشار , وللشخص المسؤول صفات يتحلى بها وهي : الكفاءة والقدرة , الحكمة في أستعمال السلطة , الحق والواجب , الطموح والواقعية , القدرة على التحفيز , قبول المساءلة والنقد , الشورى والمراجعة , أتقان فن البداية والمبادرة .
أما المسؤول العراقي فقد عَبرَ وبامتياز كل تلك المفاهيم ليؤسس منطلقات وحيثيات عجزت العقول البشرية عن أدراكها وفهمها فهو ينادي بالاصلاح وكان هو سبب الخراب ويعلن بضرورة القضاء على الفساد وهو قابع في مستنقعاته , ويتكلم بأسم المظلوميات والمحروميات وهو في غاية الترف والترفع , يدافع عن القيم والثوابت ولكنه في تحالف وتحاصص , يرتجل ويُنظّر بدلا من أن ينظم ويخطط , وهو في خضم تناقض وتعالي من أجل هدف أسمى لديه وهو المنصب فهو التعريف الاوحد الذي يمكن أن ينطبق على المسؤول العراقي , وبعضهم قد غادر هذا التعريف وأصبح يبحث عن منصب هو أقرب الى طموحاتة الذاتية المطلقة ليقول أنا الاولى بكم من أنفسكم وأنا الاولى في حكمكم والتسلط عليكم بما ورثته وما جاهدت من أجله وكلكم رعاع أتباع لاتفقهون في الحكم شيئا.
وعلى هذا المقياس لايمكن التوجه بالاتهام الى المسؤول بالمسؤولية عن أي حدث مفجع يصيبنا فنحن من صَنَعهم ومن أعلاهم ولكنهم في عليائهم لايقرّون بذلك ولايعترفون , بما ملكوا من الصلاحيات والنفوذ والسلطة , وبما يتمتعون به من معرفة وحكمة لاعلم لنا بها ولا من أين تجلت عليهم , وسنبقى في دوائرهم وما يفعلون بنا لمن القانعين الخانعين لاحول لنا ولا قوة الابالمناشدة حتى تنزل الضرورة علينا من التل ولانعرف متى ذلك لان عقولنا أصغر من أدراك الغيبيات القدسية والى ذلك نحن منتظرون , والى ذلك اليوم لابد لنا من أن نتوسل بقياداتنا التي تدعى المسؤولية والحرص والوطنية , وعلى رأسهم من يتحمل الجانب التنفيذي وهو اليوم على رأس السلطة , أما آن الاوان لكي يتجردوا من كل الفشل والخيبة التي نحن فيها وأن يعترفوا بأنهم كمسؤولين قد فشلوا وأنهم لايملكون الصفات الوراثية ولا الجينية التي تؤهلهم للقيادة حتى وأن كانوا يمتلكون ذلك الختم السري , ونبقى في أطر المناشدة من أجل شعب دفع الكثير والكثير من كرامتة لمجرد حفاظكم على مناصبكم وكراسيكم ومصالحكم وقلاعكم , فهل فيكم من يتحلى بروح المسؤولية أمام الله وأمام ضميره وامام المجتمع ويتحلى بشجاعة الرجال الكرام ويعلن في سابقة لامثيل لها أنه وبفعل ردود الافعال من قبل الجمهور يقدم أعتذاره الى الشعب وأنه نادم على كل ما أُرتكب بحق الابرياء من أهل العراق وعلى هذا يُقدمُ على ألاستقالة من المنصب الذي أعتلاه ويكون من التائبين والمستغفرين , وبذلك يطلق مرحلة جديدة نحن أحوج اليها من الحداد والتعزية والاستنكار , فهل فيكم من سيفعل ذلك , عهد الله علي يا مسؤول ( لأقَبلنَّ قدمك لو فعلتها ) .