23 ديسمبر، 2024 4:52 م

كِذبة الرَبيع العربي وتلاشي الدَولة المَدنية العَلمانية

كِذبة الرَبيع العربي وتلاشي الدَولة المَدنية العَلمانية

في بداية القرن العِشرين، وتَحديداً بَعد إنتهاء الحَرب العالمية الأولى، وبداية تشَكل خارطة جَديدة لدول المَنطقة العَربية، بدَأت الأنظِمة المَلكية التي كانَت تحكم هذه الدول، بعَمَلية تأسيس مُجتمَعات مَدَنية عَلمانية فيها. لكن هذِه العَمَلية أصابَها توَقف قسري، نتيجة مَوجَة تسونامي إنقِلابات سُمِّيَت ثورات ظرَبَت هذِه الدول مُنتصَف ذلك القرن، قامَت بها شِلل مِن ضُباط جيوشها التي تحَوّلت فَجأة ودون سابق خِبرة مِن ثكنات الجَيش الى سَدّة الحُكم، ومِن قِيادة الأفواج الى قِيادة الدول، مِمّا أدّى تدريجيّاً الى القضاء على مَدنية مُجتمَعاتِها وعَسكرَتِها، حتى باتَت العَسكرية ثقافة عامّة وفَخراً يَتسابَق له الصَغار قبل الكبار، فإنتشَرَت المَلابس العَسكرية لكل الأعمار، وأصبَحَت لُعَب السِلاح هي الأكثر رَواجَاً بَين الأطفال، وتشَكّلت في العراق مَثلاً تنظيمات هَجينة لعَسكرة المُجتمَع، كالمُقاومة الشَعبية في زمن قاسم والحَرَس القومي في زمن عارف والطلائع والفتوة والجَيش الشَعبي ومِلشيات الفدائيين في زمن صَدام، وباتَ الإلتِحاق بالجَيش الطَريقة الأسرَع لبناء المُستقبل لِما يُوفِّره مِن إمتيازات مادية ومَكانة إجتماعية في مُجتمَع باتَ يَأكل ويَشرَب ويَتنفّس العَسكرة.
طَبعاً رَغم كل مَظاهِر تشويه المَدنيّة التي مارَسَتها أنظِمة العَسكر على هذِه الدول ومُجتمَعاتِها إلا أنّها حافَظَت على عَلمانيّتِها، فلم تمزج الدين بالسياسة وأبقَت على مَسافة ثابتة بَينَها في أغلب الاحيان، وباستِثناء حالات نادرة كما فعَل الرَئيس العراقي السابق عِند غَزوه للكويت، بَعد أن تلفّحَ رياءً بالإسلام وتسَمّى بعَبد الله المُؤمِن، لم تتدَخل هذه الأنظِمة طَوال عُقود في دين الناس ودُنياهُم، وترَكتهُم يُمارسون حَياتَهم الطَبيعية دون تدَخل مِنها. فقد كان المُواطِن العربي حُر بمَأكله ومَلبَسِه وتسريحَة شَعره، وفي دُخول المَلهى أو المَسرَح أو الجامِع، بشَرط عَدَم تدَخّلِه بالسِياسة وإبتعادِه عَن ما تراه هذِه الأنظمة تهديداً لوجودِها. وهو ما تَغيّر وباتَ ظَرباً مِن خَيال وحُلماً صَعب المَنال في هذه الأيام، بَعد أن باتَت السُلطة المُطلقة في أغلب دول المَنطَقة العَربية لقوى الإسلام السياسي.       
ففي بداية القرن الواحِد والعِشرين، وتحديداً بَعد أحداث11سبتمبر التي قام بها تنظيم القاعِدة الإرهابي، بَدَأت تتشَكل  مَلامِح خارطة جَديدة في المَنطقة العَربية تَحت مُسَمّى بناء شَرق أوسَط جَديد، أنطَلقت بَواكيرها الأولى في العِراق بإفتِعال أمريكا لفوضى أسقطَت نِظام صَدام، تاركة بَدلاً عَنه لا نِظام تتَحَكم به أحزاب قومية وطائِفية تتقاسَم السُلطة كما يَتقاسَم المُحتفِلون قالب حَلوى، تلاها بسَنَوات مَوجَة تسونامي تَظاهُرات مُفبرَكة مِن قِبَل قوى الإسلام السياسي قامَت بها عَوام هائِجة سُمّيَت بالرَبيع العَربي، عَمّت المُدُن العَرَبية بحِجّة الرَغبة بإصلاح وتغيير الأنظِمة الفاسِدة، أسقطَت أنظِمة العَسكر التي كان هُناك أمل ضَعيف في إصلاحِها، وجائَت بَدلاً مِنها بأنظِمة إسلام سياسي أكثر مِنها فساداً ودكتاتورية لا أمَل بتاتاً في إصلاحِها.
أضاع الخَيط والعُصفور، ولا طال عِنَب الشام ولا بَلح اليَمَن. هذا هو اليَوم حال الشُعوب العَربية، بَعد أن تسَيّدت عليها قوى الإسلام السِياسي والأطراف الداعمة لها بكِذبة الرَبيع العَربي، مُستغِلة جَهلها وسَذاجَتَها وإندِفاعَها وَراء الخُزعبَلات، ونَجَحَت بسَحب بساط العَلمانية المُهتريء الذي كانَت تقِف عَليه هذه الشُعوب مُحتفِظة بما بَقي لها مِن إنسانيّة وتَحَضّر، سَبَق وأن فقدَت جُزئاً كبيراً مِنهُما بفِعل بنادِق العَسكر، وهاهي تفقِد اليوم ما تبَقى مِنهُما بفعل لِحى وعَمائِم أدعياء الإسلام مِن دُعوَجيّة العراق وأخوَنجيّة مصر وتونس وسَلفجيّة سوريا. بالتالي هاهي الدولة العَلمانية تتلاشى شَيئاً فشَيئاً في العالم العربي كما تلاشَت الدولة المَدَنية مِن قبلِها، وباعتقادي لن يَمضيَ وقت طَويل حَتى نشهَد ولادة دول ثيوقراطية تَحكُم على طول مَساحة العالم العَربي مِن المُحيط الى الخليج.
هناك الكثير مِن الإثباتات والدَلائِل على إنهيار وتلاشي الدَولة المَدنية العَلمانية في العالم العربي ومُجتمَعاتِه حالياً، خصوصاً بَعد كذبة الرَبيع العَربي التي رَوّج لها الإعلام المَسموم المَأجور للإسلام السياسي والقوى الداعِمة له، وصَدّق شِعاراتِها الفارغة وهلل لها الشارع الساذج بمُستقليه ويَسارييه ولبرالييه. فنظرة بَسيطة لشَكل وهَيئة وهِندام نُخَب السياسة التي حَكمَت الدول العَربية وخلفِياّتِها الإجتِماعِية والثقافية في مَصر مَثلاً بَدئاً بفاروق وصولاً لمُرسي مُروراً بناصِر والسادات ومُبارك، أو في العِراق مثلاً بدئاً بفيصل وصولاً للمالكي مُرورا بقاسِم والعارفين والبَكر وصَدام، سَترينا المُستوى المُتدَني الذي وَصَلت اليه النُخَب السياسية الحاكِمة بالدول العَربية، وآخِرها نُخَب الإسلام السياسي التي نضَحَت مِن إناء مُجتمَعات رَبيع البؤس والتخلف والجَهل العَربي. إنه لأمر مُؤسِف ومُحزن أن نرى شُعوباً ومُجتمَعات كانَت حَتى مُنتصَف القرن الماضي تواكِب رَكب التقدّم والتطَور وتَعيش الرَبيع بشَكلِه الإنساني وأجوائِه المُشرقة تعود القهقري الى الخَلف بهذا الشَكل المُريع، وتنزَع عَنها ثوبَ التمَدّن والتحَضّر لترتدي ثوبَ الجَهل والتَخلف وتشَوّه الرَبيع لتجعَل مِنه رَمزاً للبُؤس والظلام  .
[email protected]