بحكم مهنتي واختصاصي القريب من مهنة الصحافة والاعلام، اتابع وارصد بحرص العديد من القضايا التي تطرح عبر هذه الوسائل وخاصة من خلال كتابنا ومحللينا- لنصاب جميعنا بالدهشة والاستغراب والمرارة لهذا الواقع الاليم الذي وصلنا اليه فالمعلومات التي تصلنا مبتورة، والحقائق ناقصة، والاحداث مشوهة، والمصادر الاولى معادية بما يثير الشبهات حول الاهداف المتوخاة، ويبث الرعب والقلق والخوف على مستقبل هذا المجتمع واجياله اللاحقة، ودورها القادم ضمن الاطار الانساني العالمي كمجتمع المفروض يحمل رسالة تاريخية وحضارية.
ولما كان الكاتب والمحلل والصحفي والباحث… هم اساس العملية الاعلامية، وهم القادة والعاملون على تكوين الرأي العام، وتوجيه الجماهير من خلاله، فان موقعهم الهام ينبع من اهمية المهمة الوطنية الملقاة على عاتقهم وعظم المسؤولية التي يتحملونها في مجتمعاتهم، ارادوا ذلك ام لا، فهم من هذا المنطلق في دائرة الضوء، وكلامهم المسموع والمقروء، واراؤهم وتحليلاتهم ترصد ويتم التفاعل معها سلباً او ايجاباً، والناس المستهلكون لبضاعتهم- ان جاز التعبير- اذكياء بحس وطني مرهف رغم بساطتهم وطيبتهم التي تصل الى درجة السذاجة العضوية في بعض الاحيان. من هنا فلا مجال للخداع ولي رتبة الحقائق، والتناقض والتحايل على الناس في عقلهم ووعيهم، بل والاهم، ان هذا ليس من شيمنا واخلاقنا، ويتناقض تماماً مع مصالح الوطن والمجتمع.
ان كاتبنا مطالب بالانسجام مع نفسه خلال عرضه او تحليله لقضية عامة تهم المجتمع، فلا مجال للتناقض والتشويش، فالقارئ في بلادنا وهو يعيش حياة مليئة بالمفاجآت والتناقضات والاحباطات، بحاجة الى من يساعده بأمانة على تحسس موقعه واداء دوره الطبيعي المشروع في صنع القرار، وبلورة الرأي حول ما يجري حوله، وتحمل المسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقه، ضمن جماهير مجتمعه الذي ينتمي اليه، ويعيش آلامه وآماله.
طبيعي جداً ان تختلف الاجتهادات وتتعدد الاراء والرؤى حول الامور والقضايا العادية المطروحة… فكيف اذا كانت هذه القضايا بمثل قضية انتفاضة سُنةعراقنا، والمفاوضات والحلول المقترحة بخصوصها، والاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعيشها بلادنا، بابعادها المختلفة.
لكن الاهم ان نمارس العملية الديمقراطية في تعاملنا مع هذا الاختلاف في الاجتهاد، وتعدد الاراء من منطلق ان لا احد يمتلك الحقيقة المطلقة، والحقيقة تولد من خلال الحوار واختلاف الاراء، وتلاقح الافكار وتداخلها وتمازجها، وصولاً الى القواسم المشتركة، التي تصب في مصلحة الوطن والمجتمع، وتقلل ما امكن من الخسائر والاضرار.
في هذا الاطار، فان مسؤولية الكاتب –اي كاتب- وبخاصة اولئك الكتاب الدائمين لاعمدة ثابتة في الصحف الرئيسية، ان يساعد المواطن/ القارئ على التحليل والتفكير، واتخاذ القرار المستقل، دون املاء او ايحاء، والذي ينسجم مع ضميره وحسه الوطني ومصلحة شعبه من خلال كشف الحقائق حول الموضوع المثار، كونه اكثر اطلاعاً وألماماً بالمعلومات وتفاصيلها، من الانسان العادي الذي يعيش وللاسف في حالة قلق وتناقض وتوتر بسبب جهله بحقائق ما يجري. فمن المسؤول يا ترى عن هذا التعتيم، بل والتضليل في بعض الاحيان؟ أوَّ لا يتحمل الكتّاب والمحللون والسياسيون مسؤولية هذا الواقع الشاذ؟
لقد سئم العراقي تقلبات العديد من الكتّاب وتناقضاتهم وهلاميتهم، وانتقالهم المشين من حضن الى حضن، ومن معسكر الى نقيضه، كون ذلك يمثل احتقاراً لعقله وذاكرته، وضحكاً عليه، وخداعاً له، وانتقاماً من كرامته وانسانيته.
واذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، فان العراقي العادي سيفقد لغته بكتّابه ووسائل اعلامه، ليبقى فريسة للاتساعات والدعاية المعادية وما يرافق ذلك من انفعالات وتحركات عشوائية مدمرة او يأس واستسلام وتبعية.
وانطلاقاً من هذه الحقائق، فاعلامنا باشكاله المختلفة، والكتّاب جزء منه، مطالب باعادة رسم السياسات والاستراتيجيات الاعلامية، وما ينسجم معها من ممارسات عملية ليس لجيلنا فحسب بل وتحضير الاجيال القادمة بما يكفل تفجير طاقاتها الكامنة، وانعتاق وتحرير افكارها، وتوفير المناخ المناسب لعملية ابداعها، خدمة لاهدافها النبيلة في بناء صرح التقدم والتطور الحضاري، جنباً الى جنب مع الشعوب والامم المتقدمة. كل ذلك ضمن اجواء من الحرية والديمقراطية المسؤولة، واحترام الفكر، واختلاف الرأي، وتقديس انسانية وكرامة الانسان، بعيداً عن الوصاية والارهاب الفكري. وهذا بطبيعة الحال ينسجم مع ديننا وتاريخنا وقيمنا التي تركت بصماتها على التطور الحضاري والانساني.
انها دعوة متواضعة بوقفة صادقة مع الذات، ومراجعة امنية لواقعنا المر للاندماج بالمجتمعات المتحضرة التي لا مكان فيها للجهلة والمتخلفين الضعفاء.
فهل نعي هذا التحدي الحضاري؟
وهل سيتحمل اعلامنا مسؤوليته بامانة واقتدار؟
انها اسئلة بحاجة الى اجابات تترجم في الواقع العملي ابداعاً وانعتاقاً للفكر وتفجيراً لطاقات العقل، وامكانات الجماهير، وتحريراً للرأي، واحتراماً لكرامة العراقي وانسانيته وحقه المشروع في المشاركة، وصياغة واقعه ومستقبله.
[email protected]