23 ديسمبر، 2024 2:19 م

كي لا ننسى ، عام على حادثة شاحنة جثث اللاجئين

كي لا ننسى ، عام على حادثة شاحنة جثث اللاجئين

كل شعوب الأرض ، ذات ذاكرة لا تُمحى ، تحتفظ بها تراثا ، سلبا كان أم أيجابا ، تقيم لها المتاحف ، وتكدس لها الادبيات التي تُدرس ، لأستخلاص الدروس والعِبَر ، كي لا تقع في الأخطاء ثانية ، الا نحن ، فذاكراتنا قصيرة الأمد جدا ، وتتلاشى كلما حدث أمر أكثر جللا من سابقه ، وبأنتظار نسيانه هو الأخر ، وكأننا جالسون على قارعة طريق البلاء ، متوقعين الموت ومتعاطين للمصائب وكأننا ننتظرها ! بل وكأنها النهج الثابت الوحيد في حياتنا ، فلسنا سوى جوقات للرثاء والبكاء ، بارعون بندب النفس ، وكأنه من الثوابت ، سرادقنا مشرعة دوما للحزن والنحيب ، جُبلنا على ترقب الكوارث ، وتركنا التفاؤل ، والعمل على تقويم الاعوجاج ، ضاع عنا الأصرار على التغيير ، غابت عنا مقاومة جلادينا ، وضاعت منا محاسبة سارقينا ، ومن نكّد حياتنا ، فجعلها جحيما حرفيا !.
مر عام على حادثة (شاحنة الدجاج) التي تَركت مركونة على الحدود النمساوية المجرية ، وبها 71 جثة من اللاجئين ، خمسون منهم عراقيا من الشباب الذي مل أوضاع البلد التي صارت لا تُطاق ، ليقع بيد عتاة المجرمين من المهربين ، وقد خلت ضمائرهم من ذرة انسانية ، وهم يحملون شحنة من البشر ، أرخص بكثير من الدجاج التي خُصصت الشاحنة لنقله ، كيف لا ، فهم لا يساوون شيئا بنظر سلطاتهم ودولهم ، فكيف بالمهربين !.
هكذا ماتوا اختناقا لكون الشاحنة محكمة الغلق ، وتركوها يوما كاملا على قارعة الطريق في يوم حار من 23 آب 2015 ، وعندما فتحتها السلطات النمساوية ، هالهم ما وجدوه ، دون علمهم ، ان هذا المنظر مألوف الى درجة اصبح عُرفا يوميا في بلد القتل الذي اسمه العراق !.71 جثة متحللة بشكل شبه تام رغم مرور يوم واحد على وفاتهم ، لأن درجة الحرارة في الشاحنة فاقت 80 درجة مئوية !، أي انهم طُبخوا حرفيا ، وصارت السلطات النمساوية ، تفصل الأجساد المتلاصقة عن بعضها .
قناة DW  الألمانية ، احتفت بهذا اليوم (على عكس حكومتنا وكأن الأمر لا يعنيها ) وكعادتها ، يقول أحد عمال الأنقاذ (انها من أكبر الحوادث مأساوية مرت على أوربا ! ، كنا نغسل (جوالاتهم) من البول والدم والصديد الذي نضح من جثثهم !) .
فيا تُرى، لو أوفدت وزارة الخارجية (وان كان هذا مستحيلا) ، أحد مندوبينا الحكوميين ، للوقوف على هذه المأساة ، ببدلته وربطة عنقه ونظارته الشمسية ، فماذا سيفعل ؟ ، أتصوره يشيح بوجهه مشمئزا ، غالقا منخريه بسبابته وابهامه ، وسيشعر بالتقزز ، دون أن يذرف دمعة واحدة ، لأنه –ان حضر- فسيحضر لأجل الحضور فقط ! .
(حسن) ، ذلك الشاب الوسيم ذو السابعة والعشرين ربيعا من ابناء منطقتي ، وكان صديقا لأبني ، والذي كان مصرا على (الهروب) من البلد ، لكون بصيرته تملي عليه (وفيها الكثير من الواقع) ، ان لا أمل يُرجى من البلد ، بعد كل تلك الفوضى والتخبط والعشوائية وغياب القانون والفشل الأمني وغياب الخدمات والفساد ، فزار النجف الأشرف وكربلاء مع ابني قبيل سفره ، وكأنه يعلم انه آخر عهدٍ له بهذه المقدسات ، تحول الى صاعقة صدعت رؤوسنا ! ، لقد كان أحد هؤلاء الضحايا ! ، هكذا شيعناه في منطقتنا ، بتابوت مغلق ، يضم رفاةً لا يزيد وزنها على 20 كيلوغرام ! ، بعد 50 يوما من الحادث !.
أصر الأب على فتح تابوته ، فوجد بقايا بشر ، بفك مفتوح على مصراعيه ، تترجم لحظات وانفعالات  الموت المرعبة الأخيرة ، فانفجر الأب بكاءً مرا ، وهو يقول (تحرك فكه قبيل موته لأنه قال (يابة) مستنجدا بي ) !.
أدعو لأنشاء مركز توثيق لذاكرة الجرائم تلك ، كي لا ننسى ، حتى يدفع المسؤولون الثمن باهظا على كل (خدش) احدثوه ، أو كل روح أزهقت بسبب الأهمال ، أو كل (دينار ) سرقوه ، أو كل فشل سببوه ، بقصد أم بغير قصد ، مركز يوثق كل تلك الجرائم ، وأن ينتهج هذا المركز ثقافة الصوت العالي والعمل الدؤوب ليسمعنا العالم الحر ، ونحن نروي ماذا حدث في (سبايكر) والصقلاوية وسقوط الموصل ، وضحايا الأنفجارات ، وملفات الفساد ومشاكل المياه وتدمير البيئة وانقراض المساحات الخضراء ، وتقاعس الوزارات وكسل وتخلف المسؤولين ، وفشل الأمن ، وكل تجاوز على القوانين ، وغيرها من الجرائم الكبرى ، وأن يكون هذا المركز مستقلا قويا فاعلا مرتبطا أمميا ، فان كان حكوميا ، فلن تجد تلك القضايا طريقا ، سوى أدراج المكتب ، ليطويها النسيان !.